القاضي الحقيقي منهج تفكير وصحوة ضمير متجرد - كلمة بمناسبة اكتمال العطاء
انطلاقا من حرص "منشورات قانونية" على توثيق الأحداث القانونية والقضائية بمختلف صورها إيمانا بالحق في المعرفة والاطلاع للأجيال الحالية والقادمة من الباحثين والمحامين والقضاة، ننشر في "تدوينات منشورات قانونية" نص الخطاب الذي ألقاه المستشار يحيى دكروري النائب الأول الأسبق لرئيس مجلس الدولة، في نهاية مسيرته القضائية التي امتدت لنحو خمسين عاما.
ألقى دكروري هذا الخطاب بمناسبة اكتمال عطائه بختام العام القضائي 2017-2018 الذي تولى فيه رئاسة الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة. حيث زاوجت كلماته بين الرؤية الموضوعية المحملة بتجربة حياتية وقانونية كبرى لدور القاضي الإداري في المجال القانوني وعلى ضوء الثوابت الوطنية، وبين الاعتزاز الذاتي البالغ بمجلس الدولة؛ تاريخا وإرثا وكيانا ورسالة.
ويشير دكروري في خطابه هذا إلى محطة مهمة في تاريخ مجلس الدولة تتمثل في تطبيق قانون تعيين رؤساء الجهات والهيئات القضائية رقم 13 لسنة 2017 لأول مرة، حيث عارضته الجمعية العمومية لمستشاري المجلس، ورشحت لرئيس الجمهورية المستشار يحيى دكروري كمرشح وحيد ومنفرد لرئاسة المجلس، بالمخالفة لنص ذلك القانون، الأمر الذي أسفر عن تجاوز أقدمية دكروري وإصدار قرار جمهوري بتعيين المستشار أحمد أبو العزم رئيسا لمجلس الدولة.
عُرف المستشار يحيى دكروري إعلاميا بالعديد من الأحكام القضائية المهمة التي ترأس الدوائر التي أصدرتها بالمحكمة الإدارية العليا ومحكمة القضاء الإداري، إلا أن أشهرها وأكثرها تأثيرا على الإطلاق كان الحكم ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية وما تضمنته من نقل تبعية جزيرتي تيران وصنافير إلى المملكة والذي أيدته المحكمة الإدارية العليا لاحقا ثم ألغته نهائيا المحكمة الدستورية العليا، والحكم ببطلان دعوة رئيس الجمهورية الأسبق المعزول محمد مرسي للانتخابات التشريعية عام 2013.
وإلى نص هذا الخطاب:
بسم الله الرحمن الرحيم
زملائي الأجلاء نواب رئيس مجلس الدولة أعضاء الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع،
كم كنت أتمنى أن أوجه كلمتي هذه إلى جموع قضاة مجلس الدولة، ولكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه، وما أستطيعه ويثلج صدري أن أوجهها إليكم وأنتم رفاق الدرب، بمناسبة انتهاء العام القضائي والذي بانتهائه تكتمل مدة خدمتي معكم بمجلس الدولة العريق.
الزملاء الأجلاء،
تحت مظلة هذا الحصن الحصين، هرم العدالة الإدارية، حامي الحقوق والحريات، ميزان القسط وموضع كل عطاء يرتقي إلى درجة العبادة؛ أتوجه إليكم في هذه اللحظات الفارقة لأقدم عرفانا مستحقا لكل هذه الرموز الشامخة، فكل منكم ليس فحسب صاحب المقام الرفيع، ولكنكم، وعن جدارة أهل لكل توقير واحترام، فكل منكم قامة رفيعة، وقيمة غالية، وسادن أمين للحق والعدل.
لقد أعطيت هذه الجدران العامرة عمري، ريعان شبابي وخبرة شيخوختي.
وأشهد الله تعالى أني لم أبخل بشيء ولم أضن بجهد، ولم أتخاذل يوما أو أتهرب عن عمل أوكل إلي، ولم أتوان هنيهة عن الدفاع عن هيبة هذا الصرح العظيم الذي نشرف جميعا بالانتماء إليه، ولا عن كرامة قضاته، ولم أخش لومة لائم في الصّدْح بكلمة الحق، ويعلم كل من اقتربت منهم واقترب مني من أساتذتي وزملائي وتلاميذي ما قد بذلت وأبذل، وفي يقيني أني أعمل ضميري إعلاء لصوت الحق والعدل، ونُصب عيني دائما أن أخدم بلدي الحبيبة مصر وفقما أراه متفقا وأحكام الدستور والقانون والتقاليد القضائية الراسخة، لذلك أشعر الآن براحة الضمير وهدوء النفس، قد لا أكون قد حققت كل ما كنت أصبو إليه، ولكن يكفيني ويرضيني أني حاولت بصدق وتجرد في كل ما عملت وقدمت، وأحمد الله على ذلك.
ولقد كان أغلى وأروع وسام حصلت عليه، ذلكم الوشاح الذي طوقتم به عنقي بثقتكم الغالية التي فاقت ما كنت أشعر أنني أعطيت.
فقد سجل العالم حرصكم على الانتصار للمبادئ والأعراف والتاريخ المهني الذي هو أكبر قيمة للأداء والعطاء، وقد كان البرهان ساطعا على أنكم سدنة الحق وأيادي العدل التي لا ترتعش وقد شهد العالم القضائي من حولنا أن تلكم الوقفة المشهودة لقضاة مجلس الدولة في مصر الحراسة تقاليده وقواعده الراسخة لا تقل مجدا وشرفا في كل موقف وحين، فقد أثبتم أن للحق دائما رجاله البواسل، فإذا كان للجندي مدفع، وللطبيب مبضع فللقاضي من على منصته تحت مظلة هذه القلعة الشامخة موقع وموضع، وأي موقع وموضع.
إنني إذ أقف في هذا المحراب المقدس، محراب الحق والعدل، فإنما أقف متسلحا بثقتكم الغالية، وبالضمير الحي والرفعة والسمو والنبل في أشخاصكم، فأنتم حراس العدالة وأعلامها المرفرفة في عنان السماء، وأعني بخطابي جميع الزملاء والأبناء الأعزاء على السواء، لا أخص جيلا أو مجموعة أو أقدميات بعينها، فهذه مجرد تقسيمات ومواقع نمطية قد تتغير ولا تدوم، لكن ما يبقى في نفوسنا ويدوم هي صورة القاضي الجالس على المنصة يسطر بدرر أحكامه كلمة الحق التي لا تقبل القسمة ولا النزول عنها بحال.
إن شرف القاضي الذي يعيش به وله، ليس مجرد أحلام أو خيال، لكنه واقع تطبيقي، إذ هو الحارس المؤتمن على شرف الحقيقة، يستلهم ضميره ووجدانه بغية الإصلاح الخالي من أي انفعال.
فالقاضي الحقيقي هو منهج تفكير وصحوة ضمير متجرد من كل تأثير قادر على إنارة الطريق بفكره الواعي المستنير، مدرك لمسئوليته الوطنية والتزاماته الدستورية، بقدرته على البحث والتنقيب عن الحق أينما كان، والتعبير عنه بأجزل وأوضح بيان، لا يبغي إلا وجه الله، وهذا الوطن، والعدالة والشعب الذي تصدر باسمه الأحكام.
كنا دائما نستقي عبر الأجيال المثل والقيم والنماذج الرائعة العظيمة في حياتنا بكل إجلال وتقدير ، لاسيما جيل الرواد وفي المقدمة منه الدكتور عبد الرزاق السنهوري، ثاني رئيس لمجلس الدولة، هذا الرجل الذي تشرب روح القانون والعدالة من رأسه إلى أخمص قدميه، ونهل من هذا النبع الفياض أساتذتنا الكرام الذين غرسوا فينا التقاليد والقيم والفكر القانوني الرصين.
لقد أدركنا في محراب هرم العدالة الإدارية هذا، أننا نستقل زورق العدل الذي لا يغرق، بحثا عن الحق والواجب، فنجد العدل فنحاول أن نستنهضه، ونجد الباطل فنحاول أن نزهقه كل منا صاحب منهج في التفكير القانوني يحترم فيه التشريع ويجتهد وفق احتياجات العدالة وإنزال العدل وصحيح حكم القانون؛ لذلك فإنني أرى أن هذه الكوكبة منكم هم الثروة التي تفاخر بها مصر أمام العالم، والمنهج الذي يعتز به الوطن ليقول للعالم أجمع: إن في مصر قضاء.
زملائي الأجلاء،
إنكم كافة، تشاركونني رحلة الكفاح؛ شركاء في حمل سلاح الحق والعدل، فالقضاء ليس مهمة طارئة وتنتهي، وإنما هو رسالة دائمة ومستمرة.
وإلى الذين يسعون إلى أن تصل مصرنا الحبيبة إلى التقدم والازدهار المنشود؛ أقول: ضعوا وطنكم الغالي نصب أعينكم، وأشيعوا العدل ليكون متاحا لكل الناس، لأن مصر التي خلد ذكرها القرآن، غالية علينا جميعا، نعيش فيها وتعيش فينا كما قيل بحق، وإذا كان عنوان الوطنية هو التضحية مهما فدح الثمن؛ فنحن أهل لكل تضحية.
وفي هذا المقام الجليل، لا يفوتني أن أتوجه بأجزل الشكر وأوفى الامتنان لكل أساتذتي الذين كان لهم الفضل الأكبر فيما وصلت إليه، وأسأل الله العلي القدير أن يمتع من لا يزال منهم على قيد الحياة بموفور الصحة والعافية، وأن يمد في أعمارهم، وأن يغفر لمن قضى منهم نحبه؛ مصداقا لقوله تعالى في سورة الأحزاب : "مِنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُوا ما عاهدوا اللَّهَ عَليهِ فَمِنهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنهم مَنْ ينتظر وما بدلوا تبديلا" صدق الله العظيم.
كما أتوجه بموفور الشكر والتقدير لكل زملائي وأبنائي الذين رافقوني في مسيرة العمل على كل ما بذلوه من جهد وتحملوه من مشقة معي، وأجرهم عند المولى عز وجل، وإن كان قول أو فعل أو تصرف بَدَرَ مني وسبب لهم ضيقا أو حزنا، وإن كان عزائي أنه عن غير قصد، فآمل أن يقبلوا عنه اعتذاري.
وفي الختام، أوصيكم جميعا، وأنتم سدنة صرح العدالة الإدارية، أن تعتصموا - بعد حبل الله المتين وصراطه المستقيم - بحبل مجلس الدولة، جميعا ولا تفرقوا، وكونوا دائما على قلب رجل واحد لتبقى راية مجلس الدولة بكم عالية في كل محفل.
حفظ الله مصرنا الحبيبة وحفظكم ذخرا لها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته