العدول عن التصديق على حكم أمن دولة طوارئ: شهادة قانونية على سابقة تاريخية
*الكاتب: خالد علي، المحامي بالنقض والحقوقي البارز
شهد القضاء المصري مؤخرا سابقة غير معهودة في مجال قضاء الطوارئ، حيث عدل مكتب الحاكم العسكري عن قراره السابق بالتصديق على حكم محكمة أمن الدولة طوارئ، الصادر منذ عام تقريبا والمصدق عليه في ديسمبر 2020، بحبس ممدوح حمزة ستة أشهر مع الشغل وإدراجه على قوائم الإرهابيين.
يقدم المحامي والحقوقي البارز خالد علي في هذا المقال شهادة قانونية على أحداث هذه السابقة وإجراءاتها، والتي تفتح بابا للأمل في تطور منظومة قضاء الطوارئ، لا سيما بعد الإشارة في الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان إلى مقترحات لإدخال بعض التعديلات على تلك المنظومة، لتعزيز ضمانات الحق في التقاضي والمحاكمة المنصفة.
ما إن طالعت أوراق قضية الدكتور ممدوح حمزة فور تسلمي لنسخة منها تولد عندى انطباع أنها من الناحية القانونية قضية غير مألوفة، فقد تم تقديمه للمحاكمة أمام محكمة الجنايات أمن دولة طوارئ لمحاكمته على ما نُسب إليه من كتابة تغريدة على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي "تويتر" عن أحداث جزيرة الوراق، وقد وجهت إليه النيابة تهمتين:
١- حرض علناً على ارتكاب جريمة إرهابية وهى استخدام القوة والتهديد الذين من شأنهم الإخلال بالنظام العام وتعريض سلامة المجتمع ومصالحه وأمنه للخطر بأن نشر مشاركة عبر حسابه الشخصى لدى موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" بشبكة المعلومات الدولية حوى عبارة موجهة إلى أهالى جزيرة الوراق، وكان ذلك بغرض منع وعرقلة السلطات العام من القيام بعملها ومقاومتها، ولم ينتج عن ذلك التحريض أثر على النحو المبين بالتحقيقات.
٢- حرض علناً على عدم الانقياد للقوانين، وكان ذلك بدعوته المتمثلة فى مشاركته المنشورة -محل الاتهام السابق- على النحو المبين بالتحقيقات.
وبالرجوع لملابسات القضية وجدت أنه فى يوم نشر التغريدة 16 يوليو 2017 دخلت قوات الشرطة الجزيرة بزعم إزالة بعض التعديات ووقعت صدامات مع الأهالي، وانسحبت القوات فى الساعة الواحدة ظهراً.
لكن التغريدة تم نشرها فى مساء هذا اليوم وليس فى الصباح ولا فى اليوم السابق على الأحداث، فكيف يمكن اتهام الدكتور حمزة بأنه هو من قام بتحريض المواطنين؟!
فمحكمة النقض مستقرة على أن التحريض على ارتكاب جريمة يكون سابق على وقوع الجريمة وليس لاحقاً عليها سواء أنتج هذا التحريض أثر أم لم ينتجه، فضلاً عن تناقض أقوال الشهود بين أقوالهم فى النيابة وأقوالهم فى المحكمة، بالاضافة إلى توصيف الفعل المنسوب إليه -بغض النظر عن صحته من عدمه- على أنه جناية وليس جنحة، ومحاكمته أمام قضاء استثنائى (أمن دولة طوارئ) وليس أمام قاضيه الطبيعى.
تقدمنا بشهود من أهالى الجزيرة، وطلبنا السماح لنا بالاستماع لشهادة صحفيين ووزراء ومسئولين لكن المحكمة لم تستجب لأغلبها.
وانتهت المحكمة إلى أنها تستعمل الرأفة مع المتهم رغم أن الحد الأدنى للعقاب على الجرائم المنسوبة إليه عشر سنوات، فصدر الحكم فى ٢٦ أكتوبر ٢٠٢٠ بحبسه ٦ أشهر وإدراجه على قائمة الإرهابيين.
تقدمنا إلى النيابة لتمكيننا من إيداع صحيفة الطعن بالنقض، لكن النيابة لم تمكنا من ذلك، فتقدمنا ببلاغ للنائب العام، وبتلغراف يؤكد تمسكنا بحقنا فى تقديم طعن بالنقض لتقرر محكمة النقض قبول النقض من عدمه -رغم أن القضية أمن دولة طوارئ- وأنه لا يجوز الحيلولة دون إيداعنا صحيفة النقض، خاصة وأننا نتمسك بعدم اختصاص المحكمة ولائياً بنظر الجناية لانتهاء حالة الطوارئ التى ارتكب فى ظلها الفعل المنسوب للدكتور حمزة، لكن النيابة لم تمكنا من ذلك.
فتقدمنا بتظلم إلى مكتب الحاكم العسكرى بطلب إلغاء الحكم وإعادة المحاكمة، وفوجئنا بأن الحكم قد تم التصديق عليه في ٢٦ ديسمبر ٢٠٢٠.
لكن في أبريل ٢٠٢١ تم التراجع عن هذا التصديق استاداً لنص المادة ١٥ من قانون الطوارئ التى تنص على أنه "يجوز لرئيس الجمهورية بعد التصديق على الحكم بالإدانة أن يلغى الحكم..".
وتقرر إلغاء الحكم وإعادة محاكمته أمام دائرة أخرى.
ولما كان قانون الطوارئ يشترط فى إعادة المحاكمة أن يكون القرار مسبباً، فقد صدرت مذكرة قبول الالتماس
فى القضية رقم ٣١ لسنة ٢٠١٧ حصر تحقيق استئناف القاهرة، والمقيدة ٤/٤٨ لسنة ٢٠٢٠ جنايات أمن دولة طوارىء قصر النيل، والمقيدة برقم ٢ لسنة ٢٠٢٠ جنايات كلى أمن دولة طوارئ وسط القاهرة، محررة من المستشار يوسف أبو الخير، والمستشار هشام أبو علم قبل أن يتوفاه الله الشهر الماضي.
ومن بين ما سُطر في هذه المذكرة ويستحق الإشارة والتسجيل:
ولما كان يتبين من الحكم المعروض أنه عول -من بين ما عول عليه- فى إدانة المحكوم عليه ما شهدت به شاهدة الإثبات الثانية أمل غريب نصر الدين عبد المقصود بتحقيقات النيابة العامة بجلسات المحاكمة وحصل شهادتها فيما مؤاده: (أنه بتاريخ ١٦ يوليو ٢٠١٧ نشر ممدوح حمزة على حسابه الشخصى الرسمى بموقع التواصل الاجتماعى (تويتر) تغريده حرض فيها أهالى جزيرة الوراق على تكوين ميليشيات مسلحة لمقاومة رجال الشرطة والقوات المسلحة أثناء إزالة التعديات من الجزيرة، ووصف الدولة بأنها دولة احتلال، ووصف أحداث الوراق بأنها تهجير قسرى، كما أضافت أنها ترى أن تلك المنشورات التى نشرها المذكور عبر حسابه الرسمى بموقع التواصل الاجتماعى (تويتر) جميعاً تحريضية ضد الدولة المصرية).
فى حين أن الثابت من الاطلاع على تحقيقات النيابة العامة أن تلك الشاهدة اقتصرت شهادتها على أنها لا تجزم بارتباط أحداث جزيرة الوراق محل التداعي- على النحو المتقدم ذكره- بما نشره المتهم عبر حسابه الشخصى لدى موقع التواصل الاجتماعى (تويتر) بشبكة المعلومات الدولية على الرغم من أن هذا يتعلق بجوهر الواقعة المشهود عليها بالنسبة للاتهام المسند للمتهم وفى الوقت ذاته، فقد خلت تلك الشهادة مما أوردته بشهادتها بمحضر جلسة المحاكمة.
ولما كان ذلك، فإن الحكم المعروض إذ استخلص مقارفة المحكوم عليه للجريمتين آنفتي البيان مستدلا على ذلك بأقوال الشاهدة الثانية بتحقيقات النيابة العامة سالفة البيان فإنه يكون قد أقام قضاءه على ما لا أصل له فى الأوراق، ومسخ الشهادة من حيث محلها المشهود عليه.
ولا يغير من الأمر أن يكون الحكم المعروض قد أخذ بأقوال تلك الشاهدة بجلسات المحاكمة ما دام أنه استدل على جديتها بأقوالها بتحقيقات النيابة العامة بما لا أصل له فى الأوراق، ولا يرفع هذا العوار ما أورده الحكم المعروض من أدلة أخرى إذ أن الأدلة فى المواد الجنائية متساندة، والمحكمة تكون عقيدتها منها مجتمعة بحيث إذا أسقط إحداها أو استبعد تعذر التعرف على مبلغ الأثر الذى كان للدليل الباطل فى الرأى الذى انتهت إليه.
ولما كان ما تقدم وكان المكتب قد سبق له التصديق على الحكم بتاريخ ١/ ١٢/ ٢٠٢٠، الأمر الذى يرى معه المكتب قبول الالتماس شكلاً والعدول عن قرار التصديق لما هو مقرر وفقاً للأصول الشرعية بأنه "لا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك وهديت لرشدك أن تراجع الحق، لأن الحق قديم لا يبطله شيء".
ولذلك نرى إلغاء الحكم وإعادة المحاكمة أمام هيئة أخرى على نحو ما سيرد بالمنطوق.
لذلك يرى المكتب:
أولاً: قبول الالتماس شكلاً، والعدول عن قرار التصديق المؤرخ ١/ ١٢/ ٢٠٢٠
ثانياً: إلغاء الحكم وإعادة المحاكمة أمام هيئة أخرى.
هذه المذكرة لم تسدل الستار عن القضية لكنها فتحت الباب لنكون أمام فصل جديد فيها يحمل كل الاحتمالات.