أسلوب وإجراءات إصدار الحكم الدستوري

المستشار د. عبدالعزيز سالمان

الجمعة 1 أكتوبر 2021

* الكاتب: المستشار الدكتور عبدالعزيز محمد سالمان - نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا

** تنشر "منشورات قانونية" هذه الورقة بإذن خاص من الكاتب وسبق نشرها بالعدد الثامن والعشرين من مجلة المحكمة الدستورية العليا

 

يعد الحكم الدستورى، من أهم الموضوعات التى لم تحظ باهتمام الفقه الدستورى، حتى يستظهر أوجه الخصوصية التى يقوم عليها الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا، وكيفية المداولة حوله، وإجراءات إصداره وأساليب هذا الإصدار.

وتأتى أهمية تناول الحكم الدستورى فى أن البحث حوله يتصل بكل من القانون العام والقانون الخاص، فالحكم الدستورى حكم قضائى يخضع لما يخضع له أى حكم قضائى، ويندرج تحت مظلة النظرية العامة للأحكام فى قانون المرافعات المدنية والتجارية، ومع ذلك يتميز بخصوصية كبيرة نظراً لاختلاف طبيعة الدعوى الدستورية عن سائر الدعاوى الأخرى، وهذا يرجع – بحسب الأصل- إلى اختلاف طبيعة الوظيفة التى يباشرها القاضى الدستورى التى تعطى له سلطة تقدير واسعة حيث يراقب دستورية القوانين واللوائح، وهذا بدوره راجعُ إلى النصوص التى تباشر على أساسها مهمة الرقابة "النصوص الدستورية" إذ يقع بعضها على الحدود الفاصلة بين عالم القانون وعالم السياسة.

ونتناول هنا ما يتعلق بأسلوب إصدار الحكم الدستورى وإجراءات هذا الإصدار، حيث نعرض لمفهوم قفل باب المرافعة، ومتى تكون الدعوى الدستورية مهيئة للفصل فيها، ثم للمداولة فى الأحكام، وأخيراً إصدار الحكم.

ذلك أنه متى استوفت القضية أوراقها، من دفاع الخصوم، وطلباتهم الختامية، وانطبع فى مخيلة القضاة صورة من معالم القضية، واطمأنوا إلى استوائها للحكم، فإن المحكمة تقفل باب المرافعة، وتحجز القضية للحكم، وتقوم الدائرة بإجراء المداولة حول الحكم الذى يتعين إصداره، إلى أن تصل إلى الاتفاق على حكم معين تصدره، ونعرض لهذه النقاط تباعاً.

 

أولاً: تهيئــــــــة الدعــــــــوى للفصــــــل فيهـــــا وغلق بــــــــــاب المرافعـــــــــة:

بعد أن تنتهى المواعيد المبينة بالمادتين (35، 37) من قانون المحكمة الدستورية العليا، الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979، يعرض قلم الكتاب ملف الدعوى أو الطلب على هيئة المفوضين، حيث تتولى تحضير الدعوى.

وبعد انتهائها من التحضير، تودع الهيئة تقريراً برأيها، تحدد فيه المسائل الدستورية والقانونية المثارة فى القضية، ورأى الهيئة فيها مسبباً(المادة (40) من قانون المحكمة).

بعد إيداع التقرير، يحدد رئيس المحكمة – خلال أسبوع من هذا الإيداع – تاريخ الجلسة التى تنظر فيها الدعوى أو الطلب (المادة 41 من قانون المحكمة الدستورية العليا).

وفى الجلسة المحددة، تنظر المحكمة القضية، وقد تسمح للخصوم بالمرافعة أمام المحكمة، أو لا تسمح، حسب سلطتها التقديرية، ووفقاً لظروف كل قضية على حده، لكن يتبقى المبدأ الذى يحكم الدعوى الدستورية وهو أن المحكمة يمكن أن تفصل فى الدعوى بغير مرافعة.

وقد أراد المشرع فى قانون المحكمة الدستورية العليا من خلال المادتين: (37، 38) أن يمكن كل خصم فى الدعوى الدستورية من الوقوف على دفاع الخصم الآخر وطلباته كاملة، وكذا المستندات التى يقدمها خلال أجل محدد بانتهائه يمتنع قبول أية أوراق أو مستندات من جانب قلم الكتاب، ويبقى إمكانية قبول المحكمة لبعض أوجه الدفاع قبل قفل باب المرافعة، حيث تصبح الدعوى مهيأة للفصل فيها.

ومن ثم، فإن الدعوى تغدو مهيأة للفصل فيها بعد إيداع تقرير هيئة المفوضين وتحديد جلسة بمعرفة رئيس المحكمة، إذ يكون الخصوم قد أبدوا كل طلباتهم ودفاعهم ودفوعهم.

- وحول متى تغدو الدعوى مهيأة للفصل فيها، قضت المحكمة الدستورية العليا بأن: وحيث إن طلب الحاضر عن المدعى عليهم الحكم بانقطاع سير الخصومة ترتيباً على وفاة المدعى عليه الأول.

* مردود أولاً: بأن من المقرر عملاً بالمادتين: (39، 40) من قانون المحكمة الدستورية العليا، أن هيئة المفوضين بها تستكمل تحضير موضوع النزاع المعروض عليها، بمجرد إيداعها تقريراً تحدد فيه المسائل الدستورية والقانونية المثارة فيه، ورأيها بشأنها، وكان ما توخاه قانون هذه المحكمة من ألا يحدد رئيسها جلسة لنظر الدعوى أو الطلب قبل أن تتولى هيئة المفوضين بها تحضيره، هو أن تستجلى بنفسها مختلف العناصر التى تقوم عليها الخصومة القضائية، وأن تمحص أوراقها وأدلتها، وأن تكافئ بين أطرافها فى مجال فرص الدفاع التى تتبعها وفقاً للقانون, فلا يكون النزاع بعد انتهائها من تحضيره إلا مهيًأ للفصل فيه.

* مردود ثانياً: بأن قانون المحكمة الدستورية العليا يفترض مضيها فى نظر النزاع المعروض عليها بعد إيداع هيئة المفوضين لتقريرها على ضوء ما هو قائم من الأوراق المتصلة بالنزاع، فجعل الأصل – وعلى ما تقضى به المادة (44) من قانون هذه المحكمة – هو أن تحكم فى الدعاوى والطلبات المعروضة عليها بغير مرافعة، ولم يجز لها أن تأذن بالمرافعة الشفوية إلا لضرورة تقدرها، ولا أن ترخص للخصوم أو لهيئة المفوضين بتكميل مذكراتهم إلا استثناء، كاشفاً بذلك عن استكمال الخصومة القضائية لمقوماتها بمجرد الانتهاء من تحضيرها، وعلى الأخص فى المسائل الدستورية التى تتسم بعينيتها، باعتبار أن مدارها هو الفصل فى اتفاق النصوص القانونية المطعون عليه مع الدستور أو مخالفتها لأحكامه.

* ومردود ثالثاً: بأن المدعى عليه الأول كان ماثلاً عن طريق موكله أثناء تحضير النزاع أمام هيئة المفوضين، ويفترض فيه أنه عرض عليها وجهة نظره بكامل أبعادها.

 

ما المرافعــــــــــة؟

المرافعة – اصطلاحاً- هى الشرح الشفوى من الخصم أو محاميه للادعاءات، أو أوجه الدفاع وأسانيدها أمام المحكمة، وتسمع المحكمة أولاً مرافعة المدعى عن طريق محاميه، ثم تسمع مرافعة المدعى عليه عن طريق محاميه، وللمحكمة أن تستمع إلى أيهما أكثر من مرة، وفقاً لما تراه حتى تتضح لها الحقيقة بما فيه الكفاية، على أنها يجب أن تراعى دائماً أن يكون المدعى عليه آخر من يتكلم.

ولئن كان الأصل العام الذى يحكم جميع الدعاوى أن المرافعة حق للخصوم، إذ إن لهم ولمحاميهم الحق فى إبداء أقوالهم فى الجلسة، فلا يجوز للمحكمة مقاطعتهم فى غير ضرورة إلا إذا كان الكلام خارج نطاق الدعوى، فإن هذا الأصل لا يســــــــــــــرى على المحكمة الدستورية العليا، ولا على الدعوى الدستورية، إذا نظم القانون الإجراءات الخاصة بها على نحو يجعل المرافعة ليست حقاً للخصوم، بل رخصة خولها للمحكمة الدستورية العليا ذاتها إن رأت أن تستمع إلى مرافعة الخصوم، فهى التى تقدر، متى تستمع، ومتى تكف عن الاستماع، دون أدنى تعقيب على سلطتها من جانب الخصوم. بل إنها لا تتطلب حضور الخصوم من الأصل، فهى تفصل فى الدعوى حتى ولو لم يحضر الخصوم.

وقد جرت بهذه القواعد الخاصة بالدعوى الدستورية نص المادتين (44، 45) من قانون المحكمة الدستورية العليا، فقد نصت المادة (44) على أن " تحكم المحكمة فى الدعاوى والطلبات المعروضة عليها بغير مرافعة.

فإذا رأت ضرورة المرافعة الشفوية فلها سماع محامى الخصوم وممثل هيئة المفوضين، وفى هذه الحالة لا يؤذن للخصوم أن يحضروا أمام المحكمة من غير محام معهم.

وليس للخصوم الذين لم تودع بأسمائهم مذكرات وفقًا لحكم المادة (37) الحق فى أن ينيبوا عنهم محاميًا فى الجلسة.

وللمحكمة أن ترخص لمحامى الخصوم وهيئة المفوضين فى إيداع مذكرات تكميلية فى المواعيد التى تحددها".

ويجرى نص المادة (45) على أن: "لا تسرى على الدعاوى والطلبات المعروضة على المحكمة قواعد الحضور أو الغياب المقررة فى قانون المرافعات المدنية والتجارية".

* معنـــــى قفــــــل باب المرافعــــــة فـــــى الدعــــوى:

القرار الصادر بقفل باب المرافعة يعنى أن الدعوى أصبحت صالحة للحكم فيها بالحالة التى هى عليها دون آية زيادة من جانب أى من الخصوم، فكل خصم قد قدم ما لديه من دفاع ومستندات فى مرحلة المرافعة، وهذه المرحلة يسيطر عليها مبدأ المواجهة بين الخصوم، بمعنى أن كل إجراء يقوم به الخصم أو كل مستند يقدمه يجب أن يتم مواجهة الخصم الآخر، أى لا بد أن يكون فى حضوره أو يعلن به إن كان غائباً عن الجلسة التى تم أو قدم فيها.

* متــــــــى يُعــــــــد بــــــــاب المرافعـــــــة مقفــــولاً:

القرار الصادر من المحكمة بقفل باب المرافعة قد يكون صريحاً، لكنه فى الغالب يكون قراراً ضمنياً صورته السائدة هى قرار المحكمة بحجز الدعوى للحكم لأجل محدد، أى تحدد المحكمة جلسة للنطق بالحكم لأجل محدد، فى هذه الحالة يكون قد أصدر فيها قراراً ضمنياً، بقفل باب المرافعة. لكن إذا قررت المحكمة حجز الدعوى للحكم مع التصريح للخصوم بتقديم مذكرات أو مستندات خلال أجل محدد، فإن باب المرافعة لا يقفل إلا بنهائية هذا الأجل المحدد.

* طبيعـــــة قـــــرار المحكمـــــة الدستوريـــــة العليـــــا بقفـــــل باب المرافعـــــة، وأثره:

القرار الصادر بقفل باب المرافعة لا يُعد حكماً، وإنما هو مجرد قرار ولائى لا يقيد المحكمة فى شيئ، فتستطيع أن تعدل عنه سواء بطلب يقدم إليها أو بغير طلب: فالقانون لا يلزم المحكمة حتماً بفتح باب المرافعة بناء على طلب خصم، بعد حجزها للحكم، وهو من ناحية أخرى لايلزمها بالحكم متى قفلت باب المرافعة، بل أن هذا الأمر يرجع إلى محض ترخيصها.

ومتى أقفل باب المرافعة فى الدعوى، انقطعت صلة الخصوم بها كأصل عام. ولم يبق لهم اتصال بها إلا بالقدر الذى تصرح به محكمة الموضوع، وذلك عدا الحالات التى استثناها القانون بنص صريح.

* حـــــالات يتعـــــين فيهـــــا فتـــــح بـــــاب المرافعـــــة بعـــــد إقفالهـــــا:

يتعين فتح باب المرافعة بعد إقفالها أذا توفى أحد قضاة الدائرة، أو فقد صفته لأى سبب كان، قبل المداولة أو بعدها، وقبل النطق بالحكم، وإلا كان الحكم باطلاً.

ويتعين –أيضاً- فتح باب المرافعة إذا طلب أحد قضاة الدائرة ذلك. وهذه الحالات تتساوى فيها المحكمة الدستورية العليا مع غيرها من المحاكم، فهى حالات إجبارية يتعين الاستجابة إليها.

 

ثانياً: المداولـــــــــة فــــــى الدعـــــوى الدستوريــــــة:

المداولة هى المشاورة بين أعضاء المحكمة فى منطوق الحكم وأسبابه بعد انتهاء المرافعة وقبل النطق بالحكم، ولا يجوز حصول المداولة قبل انتهاء المرافعة.

ولقد خلا قانون المحكمة الدستورية العليا من تنظيم لكيفية المداولة بين أعضائها، وما إذا كانت تتم بصورة سرية أم علانية؛ ومن ثم فإن الرجوع بشأنها يكون لقانون المرافعات المدنية والتجارية، شريطة ألا يتعارض مع طبيعة الدعوى الدستورية.

وقد نظمت أمر المداولة المواد من: (66) حتى المادة: (170) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، حيث يجرى نصها على أن:

المـــــــــــــــادة (166)

تكون المداولة فى الأحكام سراً بين القضاة مجتمعين.

المـــــــــــــــادة (167)

لا يجوز أن يشترك فى المداولة غير القضاة الذين سمعوا المرافعة، وإلا كان الحكم باطلاً.

المـــــــــــــــادة (168)

لا يجوز للمحكمة أثناء المداولة أن تسمع أحد الخصوم أو وكيله إلا بحضور خصمه، أو أن تقبل أوراقاً أو مذكرات من أحد الخصوم دون اطلاع الخصم الأخر عليها، وإلا كان باطلاً.

المـــــــــــــــادة (169)

تصدر الأحكام بأغلبية الآراء، فإذا لم تتوفر الأغلبية وتشعبت الآراء الأكثر من رأيين، وجب أن ينضم الفريق أقل عدداً، أو الفريق الذى يضم أحد القضاة لأحد الرأيين الصادرين من الفريق الأكثر عدداً، وذلك بعد أخذ الآراء مرة ثانية.

المـــــــــــــــادة (170)

يجب أن يحضر القضاة الذين اشتركوا فى المداولة تلاوة الحكم، فإذا حصل لأحدهم مانع وجب أن يوقع مسودة الحكم.

المـــــــــــــــادة (171)

يجوز للمحكمة عقب انتهاء المرافعة أن تنطق بالحكم فى الجلسة، ويجوز لها تأجيل إصداره إلى جلسة أخرى قريبة تحددها.

وإذا صرحت المحكمة بتقديم مذكرات خلال فترة حجز الدعوى للحكم، وجب عليها تحديد ميعاد للمدعى يعقبه ميعاد للمدعى عليه لتبادلها بإعلانها، أو بإيداعها قلم الكتاب من أصل وصور بعدد الخصوم أو وكلائهم بحسب الأحوال، وصورة إضافية ترد للمودع بعد التأشير عليها من قلم الكتاب بتسلًّم الأصل والصور وتاريخ ذلك.

ويقوم قلم الكتاب بتسليم الصورة لذوى الشأن بعد توقيعهم على الأصل بالتسلُّم، ولايجوز سحب المستندات من الملف إذا طعن فى الحكم أو قبل انقضاء مواعيد الطعن ما لم يأمر رئيس المحكمة بغير ذلك.

والمداولة فى الدعوى الدستورية لها بعض الخصوصية التى تمليها طبيعة الدعوى الدستورية ذاتها، بل وطبيعة النصوص الدستورية التى تدور حولها المداولة، ومدى إمكانية القول باتفاق النص المطعون فيه أو اختلافه مع نصوص الدستور، ذلك أن قراءة النصوص القانونية مسألة مختلفة من كل الوجوه عن إعادة كتابتها، وكذلك فإن قراءتها قد تدل على أن ما هو مدون فيها يناقض روحها ونوايا المشرع فى شأنها، ولا بد – من ثم- من إخضاع النصوص القانونية المطعون عليها فى مجال تفسيرها لضوابط منطقية، لعل من أهمها:

أولاً: أن القانون الباطل لا ينقلب صحيحاً لمجرد قدم العهد على تطبيقه.

ثانياً: أن عناصر خارجية ينبغى الاعتماد عليها فى مجال الفصل فى دستورية النصوص القانونية المطعون عليها من بينها الأوضاع القاهرة التى أحاطتها عند صدورها.

ثالثاً: أن إبطال بعض أجزاء القانون لا يفيد بالضرورة إنهاء العمل بباقيه. وإنما يجب فصل النصوص التى أبطلتها جهة الرقابة القضائية عن سواها من أجزاء القانون وتطبيق باقيها على الفروض التى تواجهها، بشرط ألا يكون المشرع قد نظر إلى أحكام القانون جميعها باعتبارها واقعة فى إطار وحدة عضوية لا تنفصم مكوناتها، وألا يكون منافياً لحكم العقل تطبيق ما بقى من نصوصه بعد إبطال أجزائه المناقضة للدستور.

رابعاً: أن القيود التى تحد بها السلطة التشريعية من ولاية جهة الرقابة القضائية على الدستورية بما يخرج عن حدود تنظيمها، تكون عديمة الأثر قانوناً. وليس لها كذلك أن تمنعها من تطبيق قانون نزاع معـروض عليهـا، أو من الفصل فى دستوريته، إلا بناء على نص فى الدستور.

خامساً: أن جهة الرقابة القضائية على الدستورية، لا يجوز أن تتسامح فى القيود التى يفرضها المشرع على هذه الحرية إلا بقدر ضرورتها، واتفاقها مع القيود التى تقابلها والمعمول بها فى الدول الديمقراطية الحرة.

سادساً: أن النصوص القانونية ينبغى أن ترتبط عقلاً بالأغراض التى تتوخاها، بما يكفل لهذه النصوص- كوسائل اتخذها المشرع – تحقيق الأغراض التى استهدفتها.

سابعاً: أن الإجماع ليس مطلوباً فى قضاء جهة الرقابة القضائية على الدستورية، إذ الأصل هو أن تنقسم آراء قضاتها بين مؤيد ومعارض لغالبيتهم، وأن يكون موقفهم من حكمها إما انحيازاً لمنطوقه والدعائم التى قام عليها، وإما استقلالاً عنها بما يعارضها كلية، أو يوافقها فى بعض أجزائها.

ثامناً: يفترض فى النصوص القانونية المطعون عليها موافقتها للدستور، وهو ما يقتضى تفسير هذه النصوص بقدر الإمكان بما يجنبها مناقضة أحكامه.

· والمداولة لا يجوز حصولها قبل إقفال باب المرافعة، وذلك حتى تتم من جانب القضاة، وقد وقفوا على جميع جزئيات القضية ووقائعها وكافة ظروفها.

· والمداولة يمكن أن تتم فى الجلسة، فيتشاور أعضاء المحكمة همساً فيما بينهم، ويصدورن الحكم.

ويمكن أن ينسحب القضاة إلى غرفة المشورة، ويتبادلون فيها الرأى بعض الوقت، ثم يعودون إلى الجلسة لإصدار الحكم والنطق به.

وأخيراً، وهذا هو الغالب، فقد تقدر المحكمة أن التفكير فى الحكم يحتاج لبعض الوقت، فلاتصدر الحكم فى نفس اليوم، إنما تؤجل الحكم إلى يوم لاحق تحدده، وعندئذ تتم المداولة فى أى يوم قبل النطق بالحكم.

* المداولـــــــــة وتوزيـــــع القضايـــــــا فــــى المحكمــــــة الدستوريـــة العليـــا:

والأصل فى القضايا الدستورية أو غيرها من القضايا التى تختص بها المحكمة الدستورية العليا أن تبدأ المداولات حولها بعد أن يقوم رئيس المحكمة بعرض لواقعة النزاع، وبيان حكم القانون بشأنها بصورة مبدئية، ثم يليه الأقدم فالأقدم من قضاتها.

وبانتهاء هذه المرحلة التى تتناول عرض القضية المطروحة من جوانبها الواقعية والقانونية، يدلى القضاة بأصواتهم بدءاً بأحدثهم وانتهاء بأقدمهم، حتى لا يتأثر الأحدثون فى إبدائهم لآرائهم بوجهة نظر الأقدمين، إلا أن هذا الأمر الأخير سيكون مشكوكاً فيه إلى حد كبير بعد أن أبدى الأقدمون وجهة نظرهم المبدئية حول القضية بما فيهم رئيس المحكمة.

والواقع أن هذه صعوبة لا مخرج منها إلا بقيام المحكمة الدستورية العليا بإجراء مداولتها فى مرحلة واحدة يندمج فيها عرض واقعة النزاع وشرحها بالاقتراع على حكم الدستور فى شأنها لا من رئيس المحكمة فالأقدم من قضاتها، بل من الأحدث فالأحدث، حتى نصل إلى رأى رئيس المحكمة فى النهاية، وهذا هو المعمول به فى المحكمة الدستورية العليا.

* توزيـــــــــع القضايــــــــــا:

لا شك أن عرض القضية بهذه الطريقة يقتضى أن يكون قد سبق توزيعها على من يتولى عرضها، وهو ما يسمى "المقرر".

* الأول: أن يوزع رئيس المحكمة القضايا على أعضائها قبل إجراء أية مداولة فى شأنها، وعندئذ يصبح هذا العضو مقرراً للقضية التى أحالها إليه رئيس المحكمة، فلا تبدأ مداولاتها بين أعضائها إلا بعد أن يعرض المقرر واقعة النزاع بجوانبها المختلفة مع تصور مبدئى لحكم القانون بشأنها. ثم يقوم كل عضو بإبداء وجهة نظره الواقعية والقانونية فى النزاع المطروح، وذلك بدءاً من أحدث الأعضاء حتى أقدمهم، حتى لا يكون ثمة تأثير ولو كان أدبياً على رأى أى من الأعضاء.

وهذه الطريقة هى المعمول بها فى المداولة بالمحكمة الدستورية العليا.

* الثانى: أن يقوم رئيس المحكمة – بعد انتهاء المداولات المبدئية التى أشرنا إليها آنفاً – بتوزيع كل قضية على من يختاره من أعضائها.

وفضل هذه الطريقة على الطريقة الأولى، هو أن عملية التوزيع فى الطريقة الثانية لا يجريها الرئيس إلا بعد وقوفه على آراء الأعضاء جميعاً، وتعرفه على من يكون بينهم أكثر قدرة على إعداد مشروع الحكم من زاوية معلوماته الأعمق، أو توجهاته الأقرب من صور النزاع وحقيقته فلا يكون الاختيار إلا للأقدر على تدوين الحكم.

وقد يختار الرئيس أن يُعد هو مسودة الحكم فى القضايا الحيوية، أو تلك الأحكام التى تعتبر علامة بارزة فى اتجاه وتعميق دور المحكمة.

* ضوابــــــــــط سلامـــــــــــــة المداولـــــــــــة:

لم يتعرض قانون المحكمة الدستورية العليا لمسألة المداولة، ولا لضوابط سلامتها. ومن ثم فإن المرجع فى هذا الأمر يكون إلى قانون المرافعات والمستفاد من نصوص قانون المرافعات أن ثمة ضوابط يلزم توافرها لسلامة المداولة، ولعل أهمها:

(1) سريــــــــــة المداولـــــــــة: يلزم الأمر أن تتم المداولة فى سرية تامة، فلا يحضرها سوى أعضاء المحكمة دون سواهم، فلا يحضرها كاتب الجلسة "أمين السر"، أو رئيس هيئة المفوضين، أو أى من أعضائها وتبطل المداولة إذا حدث ذلك، بل إنها تبطل إذا حضرها أحد القضاة غير الذين سمعوا المداولة.

والسرية تأتى ضماناً لحرية رأى القضاة، فإذا أفشى أحدهم سرية المداولة كان معرضاً للتأديب، لكن هذا الإفشاء فى حد ذاته لا يرتب بطلان الحكم، لأنه لا ينفى أن المداولة قد تمت سراً، وإن كانت لم تعد سراً.

وإذا تمت المداولة علناً بالجلسة كان الحكم باطلاً، لأن اشتراط سرية المداولة أمر يتعلق بالنظام العام، لتعلقها بأسس النظام القضائى واعتبارات حسن سير العدالة، وكفالة الطمأنينة للخصوم.

(2) يلزم أن تتم المداولة بين جميع قضاة الحكم، ويقصد بقضاة الحكم هنا الدائرة المكونة من السبعة الموقعين على الحكم، ولا يكفى أن يتداول بعضهم ولو كانت أغلبية الأصوات، لأن المقصود بالمداولة ليس الوصول إلى الأغلبية، وإنما المقصود بها تحقيق غرض الشارع من تعدد القضاة، والوصول إلى حكم وليد تبادل وجهات النظر المجتمعة. وقد اكتفى المشرع بالأغلبية عند تعذر الإجماع.

(3) عند تعدد نقاط النزاع، يؤخذ الرأى على كل نقطة على حدة.

(4) إذا صدر الحكم من رئيس الدائرة، ولم يصدر حكم بالإجماع، أو بالأغلبية، كان حكماً معدوماً، ولا يُعد فاصلاً فى النزاع، فهو حكم لم يصدر بعد المداولة، ولا يصير حقاً للخصم الذى صدر لمصلحته.

(5) يجب أن يحتفظ القاضى بصفته حتى صدور الحكم، وأن يكون متمكناً قانوناً من الإصرار على رأيه أو العدول عنه إلى وقت النطق بالحكم.

وعند المنازعة فى سماع قاض ما للمرافعة جميعها، وما إذا كان قد اشترك فى المداولة التى صدر على أساسها الحكم، فإن المقرر أن المقصود يتحقق بحضور جلسة المرافعة الأخيرة التى صدر فيها الحكم، أو قررت فيها المحكمة حجز الدعوى للحكم، ولا يلزم أن تكون قد جرت فيهما مرافعة شفوية، كما لا يلزم حضور الجلسات السابقة، أو تكرار ما أبدى فيها من طلبات وأوجه دفاع.

وفى ذلك تقول محكمة النقض: "مفاد نص المادة (167) من قانون المرافعات أن الشارع لم يستلزم لصحة الأحكام أن يكون القضاة الذين سمعوا المرافعة وحجزوا الدعوى للحكم قد سبق لهم نظرها فى جلسة سابقة، أن يتحقق بحضور القضاة جلسة المرافعة الأخيرة مقصود الشارع بسماع المرافعة يستوى فى ذلك أن يكون الخصوم قد أبدوا دفاعاً فيها أو سكتوا عن ذلك، أو أحالوا إلى دفاع سابق.

ومناط الاشتراك فى المداولة عند المنازعة هو التوقيع على مسودة الحكم، فإذا أثبت أن القاضى قد وقع على مسودة الحكم، فهو بالقطع قد اشترك فى المداولة.

وقد قضت محكمة النقض: "المداولة بين القضاة الذين أصدروا الحكم مناطها توقيعهم على مسودته، فإذا أثبت التشكيل الثلاثى للهيئة التى أصدرت الحكم ووقعت على مسودته بمحضر الجلسة التى حجزت فيها الدعوى للحكم، فإن ذلك يكفى لإثبات أن الإجراءات قد روعيت، ولا ينال من ذلك ما ورد بمحاضر الجلسات وديباجة الحكم من حضور مهندس رغم أن الدعوى ليست من الطعن التى تتطلب حضوره فيها، لأن ذلك لا يفيد اشتراكه فى إصدار الحكم، ولا يخل بالتشكيل الذى يتطلبه القانون لإصداره".

 

إصـــــــــــــدار الحكــــــــــم

أوجب الدستور وحتم في جميع الأقضية أن يكون النطق بالحكم علنًا سواء كانت الجلسات ذاتها علنية أو سرية. فقد جرى نص المادة: (۱۸۷) من دستور ۲۰۱4 على أن: «جلسات المحاكم علنية إلا إذا قررت المحاكمة سريتها مراعاة للنظام العام، أو الآداب؛ وفي جميع الأحوال يكون النطق بالحكم في جلسة علنية».

ولقد حتم القانون - بعد إتمام المداولة - أن يصدر الحكم علناً. ففي جميع الأحوال لا بد أن يصدر الحكم في علانية، وتتحقق العلانية ولو نطق بالحكم في غير حضور أحد، ما دام أن الظروف التي صدر فيها الحكم لم تكن تمنع أحداً من الاستماع.وعلى ذلك يصح الحكم ولو صدر في غرف المشورة ما دام أن المحكمة قد راعت ألا تحول بين أحد وبين سماع النطـق بالحكم.

وقد نصت المادة: (174) من قانون المرافعات على أن: ينطق القاضي بالحكم بتلاوة منطوقه، أو بتلاوة منطوقه مع أسبابه، ويكون النطق به علانية، وإلا كان باطلاً ".

ونصت المادة: (169) من قانون المرافعات المدنية والتجارية على أن: «تصدر الأحكام بأغلبية الآراء، فإذا لم تتوفر الأغلبية وتشعبت الآراء لأكثر من رأيين، وجب أن ينضم الفريق الأقل عدداً، أو الفريق الذي يضم أحدث القضاة لأحد الرأيين الصادرين من الفريق الأكثر عدداً، وذلك بعد أخذ الآراء مرة ثانية».

والحكم الدستوري في إصداره لا يوصف بأنه حضوري أو غيابي، كما لا يوصف بأنه صدر بالإجماع أو بالأغلبية.

ومتى صَدَرَ الحكم على هذا النحو، لم يعرف الخصوم في الدعوى ما إذا كان الحكم قد صَدَرَ بإجماع القضاة أو بأغلبية آرائهم، ولم يعرفوا برأي أىًّ من القضاة صَدَرَ هذا الحكم وهو أمر يتمشى مع ما يحيط به القانون عملية الحكم من كتمان يخفيها ويواري كل رأي أبدى مخالفا للرأي الذي صدر على أساسه الحكم.

 

- أسلـــــــــــــــوب إصـــــــــــدار الحكـــــــــــم الدستـــــــــــوري، وإمكانيـــــــــــة وجـــــــــــود رأى مخالـــــــــــف، ومـــــــــــدى جـــــــــــواز إظهـــــــــــار الرأي المخالـــــــــــف:

لم يورد قانون المحكمة الدستورية العليا نصاً يتناول كيفية صدور الحكم الدستوري، وأسلوب هذا الإصدار، والمرجع في ذلك يكون إلى قانون المرافعات. وقد أخذ قانون المرافعات - كما ذكرنا بمنهج سرية المداولة، وعدم إظهار الرأي المخالف.

والســـــــــــــؤال الذي يطـــــــــــرح نفســـــــــــه، هل يتـــــــــــواءم هذا المنهـــــــــــج مـــــــــــع طبيعـــــــــــة الدعـــــــــــوى الدستوريـــــــــــة والحكـــــــــــم الصـــــــــــادر فيهـــــــــــا، أم أن الأفضـــــــــــل هو علانيـــــــــــة المداولـــــــــــة وإظهـــــــــــار الرأي المخالـــــــــــف والحجـــــــــــج التي يتسانـــــــــــد عليهـــــــــــا .

البعض - في إجابته على هذا التساؤل - رأى أن سرية المداولة، تحوطها محاذير كبيرة، لعل أهمها:

أولاً: أن لكل قاض شخصيته وثقافته وتوجهاته التي ينفرد بها، فإذا كان التنظيم القائم يجهل به، فإن دوره في جهة الرقابة القضائية على الدستورية، وقدر إسهامه في نشاطها، يظل خافياً، وهو ما يناقض ما عليه العمل في الدول المتحضرة جميعها. وفي محكمة العدل الدولية ذاتها التي تفصل في مسائل بالغة الدقة يتعلق بعضها بحقوق السيادة التي تتنازعها الدول التي تمثل أمامها، ذلك أن القضاة لا يتفاضلون على بعضهم إلا من خلال جهدهم ممثلاً في أحكامهم التي دونوها بأيديهم.

وبقدر ثقافتهم، وعمق وعيهم، وحدة ذكائهم، ونوع أبحاثهم القانونية، ودرجة ثرائها يكون لأحكامهم ولاجتهاداتهم قيمتها وأصالتها، وفي ذلك تقييم لكل قاض من منظور موضوعي.

ثانيًا: أنّ لسرية المداولة مفهوما ينبغي أن ينحصر في المرحلة السابقة على صدور الحكم، والمتعلقة بما يثور بين القضاة من حوار وجدل حول المسائل المتنازع عليها، ومحاولتهم التوفيق بين جوانبها، ونظرهم في مشروع الحكم المقدم بشأنها، وتعديلهم بعض أجزائه ومراجعتها، حتى يظهر في الصورة التي يرتضونها.

فإذا ما صدر الحكم، فإن ما اتفق عليه القضاة، وأن كان يبلور رأى الأغلبية التي يصدر الحكم عنها، إلا أن الحكم يظل منسوباً فى صياغته إلى القاضي الذي أعلنه باسمها .

أما القلة التي تعارضه، فإن من حق كل فرد فيها أن يسجل علانية رأياً مخالفاً للأغلبية، لا ليحط من قدرها، وإنما ليدعم وجهة النظر التي يؤمن بها، فلا ينزع إلى آراء لم يقم بدراستها أو بحثها بصورة عرضية غير نافذة، أو انحاز فيها إلى فريق دون آخر، بغير وعي بنتائجها، أو أبداها دون غوص في بحارها، وإنما يعلن رأياً موثقاً ومدعوماً، قائماً على ما يراه أكثر صواباً وأمتن عارضة، فلا يكون رأيه المناقض للأغلبية إلا إثراءً للحقيقة القانونية، مؤكداً استقلال شخصيته ويقظة ضميره.

ثالثًا : أن ما نلحظه اليوم في كل جهة قضائية، أن سرية المداولة هى الذريعة التي يتخفي وراءها بعض القضاة الذين يتسلبون من واجباتهم، فلا يعيرونها التفاتاً قانعين بأن تدير الحوار وتوجهه قلة من بينهم، فلا يحتاجون إلي مبادلتها عمقًا بعمق، ولا إلى الرد على حججها بما يقابلها، وإنما يؤثرون صمتاً أو دوراً متضائلاً، بدلاً من أن يكون جهدهم علماً نافعاً.

رابعًا:أن من حق القضـاة الذين تتناضـل آراؤهم مع زملائهم في إطار من الحقائق العملية، أن يكون موقفهم من الأغلبية واضحاً وقاطعاً.

فإن هم عارضوا وجهة نظرها، فإن تسجيلهم لآرائهم هو الضمان لبيان نواحي الخطأ والقصور في الحكم، فلا يركنون إلى كثرة جانبها الحق، ولا يقترعون لصالحها ممالأة لها، ولا يعارضونها بغير حجية ظاهرة، وإنما يحرصون على الحقيقة حتى لا تحيط بها الظلمة التي تطمسها.

خامسًا: أن الذين وضعوا الدستور صاغوه في لغة عامة تارکين للأجيال القادمة مهمة مواءمة هذه اللغة مع أوضاع تتغير باطراد في الجماعة التي تعايشها،وهذه اللغة العامة هي التي تتحقق بها المرونة الكافية التي يواجه بها القضاة صوراً من النزاع لم يكن الدستور قد توقعها، أو ما كان لها أن تثور أصلاً لولا تخلي السلطتين التشريعية والتنفيذية عن واجباتهما الدستورية، مما حمل جهة الرقابة القضائية على تقرير حلول قضائية تقدم بها الترضية الملائمة لهذه الأوضاع.

ذلك أن قضاة جهة الرقابة على الدستورية، وإن كانوا غير مسئولين أمام أحد، فإنهم ضمير أمتهم وصوتها، فلا يكون تدخلهم على هذا النحو إلا تطويراً للدستور بصورة تعمق حياته وتثيريها.

ولئن صح القول بأن جهة الرقابة القضائية على الدستورية لا تزدهر بغير قضاتها الذين يفسرون اللغة العامة للدستور، وتتعدد تأويلاتهم بشأنها، فإن واجبهم يلزمهم بأن يكونوا أكثر يقظة في مجال ربط نصوص الدستور ببعضها، واستخلاص ما يكون من معانيها أكثر اتفاقًا مع روح العصر.

فلا تكون مناقشاتهم حول معاني الدستور، وما ينبغي أن يعتبر تطويراً لأحكامه جدلاً دائراً في غرفة مغلقة، لا يتصل أحد بها، بل يتعين في مرحلة بذاتها أن تكون آراؤهم معلنة وقوفًا عليها وتبصيرًا بها، وإلا صار نقاشهم عقيماً لا يجاوز اللحظة الزمنية التي تم فيها، ومجهلاً، فلا يعرفه غير القضاة الذين أداروه.

سادسًا: ويزيد من دقة الأمر أن ما يعتبر مطلوباً اليوم من جهة الرقابة القضائية على الدستورية، ليس موقفاً سلبياً من الدستور، بل قوة دافعة ومتدفقة لا تضيق من حقوق الأفراد وحرياتهم، أو تضيق بها، بل توسعها، ولا تغض بصرها عن أوضاع الأقلية، بل تمد يدها إليها لحمايتها، ولا تكفل لكل جماعة أسئ تمثيلها غير دعم يوازن بين حقوقها وواجباتها.

ومما يتصل بعمل جهة الرقابة على الدستورية، أن نشاطها ينبغي أن يمتد إلى مناطق غير مطروقة، وإلى تعميق مناطق مألوفة دروبها، وإلى فرض قيود تراها الجماعة ضرورية لتقدمها، أو أن تكون لازمة لإصلاح شأنها، بما يعيد التوازن في المصالح، بين قطاعاتها المختلفة.

وقد يقال إن توقد نشاطها على هذا النحو يعود في مضمونه ومداه إلى قضاة متحررين، متوثبين، يناهضون زملاء لهم متحفظين أو خاملين، إلا أن تبسيط الأمور على هذا النحو لا يفسر النهج التقدمي لجهة الرقابة، وربما عقد هذا التفسير.

والأدق أن يقال إن نشاطها ينبغي أن يتأثر بعدد من العوامل تعود في أغلبها إلى التدخل المتزايد للسلطة حتى في أخص الشئون، وإلى دخول الطبقة المتوسطة بقوتها الداعية إلى مزيد من الإصلاح في الأوضاع التي تتعامل معها، وإلى رحابة التعليم القانوني واتساع دائرته، وإلى فهم أعمق لنوع من القضايا التي تبرز فيها مصالح الجماهير و إلى قوة وسائل الإعلام وضغوطها، وإلى رفض كل طغيان للأغلبية على الأقلية، وإلى ضرورة تقرير حلول كاملة تحيط بالمسائل المتنازع عليها، وإلى رفض أنصافها أو جوانبها التوفيقية التي تدعو إليها السلطة السياسية، وإلى أن ترسم كل سلطة ضوابط المعقولية في تصرفاتها، وإلى أن اقتصاد السوق ينبغي أن يكون متوازناً وخلقياً ونائياً عن الاحتكار، وقادماً على التناقض المشروع، وغير طارد لكل مشروع صغير.

وعلى جهة الرقابة على الدستورية أن تدخل هذه العوامل جميعها في اعتبارها، وأن تزن كل واقعة بما يناسبها، وأن تكون الحلول العادلة في نهاية بحثها، فلا تعبأ في أحكامها بأثرها على المواطنين ولا بقبولهم أو رفضهم لها، ولا بأثرها على السلطة التي قد تعارضها.

فذلك كلـه بعيد عن مهامها، غير متصل بحـدود ولايتها، ولا بالقيم التي يجب أن ترعاها، ولا بالصورة التي يتعين أن تكون عليها أحكامها، ولا بأن يكون إقدامها متوهاً بضوء الحقيقة التي تتحد على ضوئها خطاها.

 

- النظــــــــــام المصـــــــــري فـــــــي سريـــــــــة المداولــــــــة، ومـــــــــدى صلاحيتـــــــــه فـــــــــي مجــــــــال الأحكــــــــام الدستوريـــــــــة :

سبق أن ذكرنا أن القانون المصري يعتنق نظام سرية المداولة بالنسبة للأحكام جميعها، وأن هذا الأمر يسري على الأحكام الدستورية شأنها شأن سائر الأحكام لعدم وجود نص خاص يحكم المداولة في الأحكام الدستورية.

ولعل المشرع يستهدف من سرية المداولة ضمان التعبير عن رأيه، واستقلاله أثناء ممارسة عمله وتوفير الجو الهادئ والمناسب حتى يتمكن من إصدار حكمه دون تأثر بضغط من الرأى العام، وما يحول دون التشكك فى سلامة الحكم وقوته .

ولعل تأثر المشرع المصري في الأخذ بهذا المبدأ بالنظام الفرنسي، وهو مبدأ استقر في أذهان المتقاضين، ورضي به المشتغلون بالقانون واعتاده رجال القضاء وأيده الفقه المصري في مجموعه.

والحقيقة- مع تقديرنا الكامل للاعتبارات التي يقول بها أنصار الرأي المعارض لسرية المداولة - أن الأخذ بأسلوب الرأى المخالف غير ملائم، وخاصة في مجال القضاء الدستوري، وفي هذه المرحلة بالذات من عمر البلاد، وما تمر به من تغييرات جذرية تحدث في جميع المستويات. فالمجتمع لم يصل بعد إلى درجة الوعي والنضج القضائي الذي يسمح بأن يقدر اختلاف الرأي بين القضاة، وأن هذا الاختلاف ليس معناه عجزهم عن أداء وظائفهم، وليس معناه التشكيك في قيمة الحكم الذي يصدر متضمنا حكم القانون في مسألة معينة، ذلك أن مسألة الأخذ بنظام الآراء المخالفة في مصر الآن من شأنه أن يحول النظام القضائي المصري من نظام له هيبته واحترامه وتقاليده القضائية الراسخة، إلى نظام تتحكم فيه البرامج التليفزيونية وبرامج التوك شو، التي ستتخذ وسيلة لتجريح الأحكام، وهدم قوتها، وإزالة هيبتها من النفوس.

فضلاً عن ذلك، فإن السماح للأقلية بإعلان رأيها، أو السماح لكل قاض من قضاة الدائرة بإعلان رأيه يعد عاملاً من عوامل التعقيد في التقاضي، لأن الأحكام تميل إلى أن تصبح أكثر طولاً، إذ نجد في معظم الأحوال ثلاثة آراء منفصلة، ولا شك أن قراءة ثلاثة آراء أو أكثر يعد أمراً أكثر تعقيداً من قراءة رأي واحد في حكم واحد منسوب إلى المحكمة.

إن من يقيسون على نظام إصدار الأحكام في الولايات المتحدة الأمريكية باعتبار أن الولايات المتحدة هي المصدر الذي أخذت منه مصر فكرة الرقابة على دستورية القوانين، لا يضعون في اعتبارهم أن الظروف في البلدين مختلفة، يتخذ أسلوب إصدار الحكم الدستوري حال التخلي عن سرية المداولة وسيلة للتأثير على الاتجاهات المختلفة.

كما أن التخوف من أن سرية المداولة تؤدى إلى الإتكالية وعدم اجتهاد القضاة في البحث وتسبيب الأحكام أمر لا محل له لوجود الرقابة الذاتية والداخلية في المحكمة التي تحول دون ذلك، إذ أن ثمة نظام يكفل إنجاز كل قاض للمهام المناطة به واشتراكه في كل ما يخرج عن الدئرة، فضلاً عن أن سمت القاضي وسماته وتكوين القاضي - وبصفة خاصة القاضي الدستوري – وشرفه وكرامته ونزاهته، جميعها تحول دون أن يترك القاضي مهام عمله لغيره، والاتكال على جهد غيره، والحيلولة دون بذل أقصى الجهد والطاقة، والحرص على إبداء وجهة نظره وتأييدها بالأسباب الكاملة.

وأخيراً، فإن القول بأن علانية المداولة سوف يكفل العلانية لأعمال المحكمة بما يفعل دور الرقابة الشعبية على أعمالها، فذلك القول مردود، بل ومرفوض لأن المحكمة الدستورية العليا لا تعمل في إطار من الرقابة الشعبية، وإنما عملها يدور فقط في إطار الدستور وأحكامه والصالح العام الذى تقدره دون أدنى علاقة بالرأي العام من قريب أو بعيد.

- نصــــــــــاب إصــــــــــدار الحكـــــــــم الدستـــــــــوري:

يجري نص المادة: (۳) من قانون المحكمة الدستورية العليا على: «تؤلف المحكمة من: رئيس وعددً كافً من الأعضاء. وتصدر أحكامها وقراراتها من سبعة أعضاء، ويرأس جلساتهـا رئيسها أو أقدم أعضائها، وعند خلو منصب الرئيس أو غيابه أو وجود مانع لديه، يقوم مقامه الأقدم فالأقدم من أعضائها في جميع اختصاصاته».

والبين من هذا النص أن الأحكام الصادرة من المحكمة الدستورية العليا، وكذلك القرارات، يجب أن تصدر من سبعة أعضاء لا أكثر من ذلك ولا أقل، فيجب أن يُوقّع على الحكـم أو القرار سبعة أعضاء - بما فيهم الرئيس أو من يقوم مقامه -.

- انعقـــــــــاد الدائـــــــرة بعـــــــدد يزيـــــــد على سبعـــــــة، هل ينـــــــال من صحـــــــة الحكـــــــم؟

قد تنعقد الدائرة التي تنظر الدعوى من عدد يزيد كثيرًا عن العدد المقرر لإصدار الأحكام، ومن ذلك أن الدوائر الثلاثية قد تشكل من أربعة أعضاء أو من خمسة أعضاء، وكذلك الحال بالنسبة لدوائر النقض التي هي خماسية بحسب الأصل. فقد يصل العدد إلى الضعف، وقد يزيد العدد الجالس على منصة الحكم عن هذا العدد بأن يكون سبعة أعضاء أو أكثر، وهو الحال ذاته بالنسبة للمحكمة الدستورية العليا، حيث يحضر في الجلسة العلنية، وعلى المنصة عادة - جميع أعضاء المحكمة الدستورية العليا التي قد يصل إلى أثني عشر عضوًا أو أكثر.

ومع ذلك، لا تأثير على صحة الحكم الذي يصدر، متى ثبت أن الحكم الذي صدر قد صدر من النصاب المحدد الذي نص عليه قانون المحكمة الدستورية العليا ووقع عليه سبعة لم يشترك في المداولة أو يسمعها غيرهم.

وفي ذلك، تؤكد محكمة النقض على أنه: «متى كان ثابتًا من بيانات الحكم الابتدائي أنه صدر من ثلاثة قضاة، فلا ينال من ذلك أن يكون الثابت من محضر الجلسة التي سمعت فيه المرافعة وحجزت القضية فيها للحكم إلى أنه حضر - بالإضافـة إلى أولئك الثلاثـة - قاض رابـع، لأن حضور قضاة بجلسة المرافعة أكثر من النصاب العددي الذي حدده القانون لإصدار الأحكام لا يفيد اشتراكهم في المداولة في كافة القضايا المعروضة، أو مساهمتهم في إصدار جميع الأحكام فيها، وإنما هو تنظيم داخلي مضمونه تيسير العمل وتيسير توزيع العمل فيما بينهم بحيث لايخل بالتشكيل المنصوص عليه قانونًا.

وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا على هذه المعان في حكم حديث نسبياً لها صدر بجلسة 2/6/2016 في القضية رقم: 1 لسنة 35 قضائية «بطلان». ولأهمية هذا الحكم نعرض لجانب من حيثياته .

وبتاريخ الثانى من أكتوبر سنة 2013 أودع المدعى صحيفة الدعوى الماثلة طلبًا للقضاء بوقف تنفيذ ذلك القرار، وفى الموضـوع ببطلانه وعدم الاعتداد به، وقد أسس دعواه على سببين: الأول: بطلان تشكيل المحكمة، على سند من أنه إذ تنص المادة (3)من قانون المحكمة الدستورية العليا على أن " تؤلف المحكمة من رئيس وعدد كاف من الأعضاء. وتصدر أحكامها وقراراتها من سبعة أعضاء ويرأس جلساتها رئيسها أو أقدم أعضائها ". حال أنه بمطالعة الأحكام والقرارات الصادرة فى القضايا أرقام [293] لسنة 30 قضائية "دستورية" [153] لسنة 28 قضائية "دستورية" [194] لسنة 29 قضائية "دستورية" [207] لسنة 31 قضائية "دستورية" [58] لسنة 28 قضائية "دستورية"، وجميعها صادرة بجلسة 15 من يناير سنة 2013، يتبين أن كلاًّ منها صدر بهيئة مغايرة عن الهيئة التى أصدرت سائر الأحكام والقرارات، فقد صدر كل منها من هيئة ترأسها السيد المستشار ماهر البحيرى رئيس المحكمة الدستورية العليا وبعضوية ستة من نواب رئيس المحكمة تختلف أسماؤهم من حكم لآخر، مما يشير إلى أن هناك تباينًا بين القضاة الذين تداولوا فى دعواه وبين أعضاء الهيئة التى أصدرت القرار، وهو ما يخالف نص المادة [167] من قانون المرافعات . والثانى: أن القرار صدر خاليًا من الأسباب؛ اكتفاءً بالإشارة لسبق حسم المحكمة أمر دستورية المادة [534] من قانون التجارة بحكمها فى الدعوى رقم [183] لسنة31 قضائية " دستورية " الصادر بتاريخ الأول من إبريل سنة 2012، والذى نشر بالجريدة الرسمية بالعدد رقم (15 مكررًا) بتاريخ 15 من إبريل سنة 2012، وأن لهذا القضاء حجية مطلقة فى مواجهة الكافة، تحول بذاتها دون المجادلة فيه أو إعادة طرحه عليها من جديد لمراجعته، ملتفتًا فى ذلك عن أن أسباب الدعوى المطعون ببطلان القرار الصادر فيها تغاير الأسباب التى شيد عليها المدعى فى الدعوى رقم [183] لسنة31 قضائية "دستورية" دعواه، فضلًا عن صدور دستور جديد، سنة 2012، عقب صدور الحكم فى شأن دستورية المادة [534] من قانون التجارة المشار إليه، الأمر الذى كان يستوجب معاودة بحث أمر دستورية المادة فى ظل العمل بأحكامه .

وحيث إنه يتبين من مطالعة القرار المطعون فيه أن الهيئة التى تداولت فيه وأصدرته ووقعت على مسودته مشكلة برئاسة السيد المستشار/ ماهر البحيرى رئيس المحكمة الدستورية العليا وعضوية ستة من نواب رئيس المحكمة، هم السادة المستشارون الدكتور حنفى على جبالى ومحمد عبدالعزيز الشـناوى ومـاهر سـامى يوسف والسيد عبدالمنعم حشيش ومحمد خيرى طه والدكتور عادل عمر شريف، وكانوا جميعهم ضمن أعضاء المحكمة الدستورية العليا وممن حضروا الجلسة التى صدر فيها القرار المطعون عليه، حسبما هو واضح من محضر الجلسة المؤرخ 15 يناير سنة 2013، فإن الإجراءات تكون قد روعيت، ولا يغير من ذلك ثبوت حضور السادة المستشارين عدلى محمود منصور وأنور رشاد العاصى وعبد الوهاب عبد الرازق نواب رئيس المحكمة الدستورية العليا الجلسة التى نظرت فيها القضية وصدر فيها القرار؛ لأن زيادة القضاة الحاضرين بالجلسة على النصاب العددى الذى حدده القانون لإصدار الحكم لا يفيد اشتراكهم فى المداولة فى كافة القضايا المعروضة أو مساهمتهم فى إصدار جميع الأحكام أو القرارات فيها. وإنما هو محض تنظيم داخلى قصد به تيسير توزيع العمل فيما بين أعضاء المحكمة، بحيث لا يخل بالتشكيل المنصوص عليه قانونًا، وإذ كان الأصل هو صحة الإجراءات من واقع الثابت بالحكم وبمحضر الجلسة، وأن على من يدعى العكس إثبات ما يدعيه، وإذ جاءت الأوراق خلوًا مما يدحض حصول المداولة قانونًا على النحو الذى أثبته القرار المطعون فيه، فإن النعى عليه بالبطلان، من هذه الوجهة، يكون غير سديد.

وحيث إن مؤدى النص فى المادة (48) من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 على أن " أحكام المحكمة وقراراتها نهائية غير قابلة للطعن "، والنص فى المادة (49) على أن " أحكام المحكمة فى الدعاوى الدستورية وقراراتها بالتفسير ملزمة لجميع سلطات الدولة وللكافة، ...."، وعلى ما استقر عليه قضاء هذه المحكمة من أن أحكام المحكمة الدستورية العليا، بصفة عامة، لا تقبل الطعن عليها بأى طريق من طرق الطعن، وأن قضاءها فى الدعاوى الدستورية له حجية مطلقة فى مواجهة الكافة وبالنسبة للدولة بسلطاتها المختلفة؛ باعتباره قولًا فصلاً فى المسألة المقضى بها، وكانت المادة (44 مكررًا) من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 المضافة بالقانون رقم 48 لسنة 2008 تنص على أنه " استثناءً من حكم المادة (41) من هذا القانون تنعقد المحكمة فى غرفة مشورة لنظر الدعاوى التى تُحال إليها من رئيس المحكمة، والتى ترى هيئة المفوضين أنها تخرج عن اختصاص المحكمة، أو أنها غير مقبولة شكلًا، أو سبق للمحكمة أن أصدرت حكمًا فى المسألة الدستورية المثارة فيها. فإذا توافرت إحدى الحالات المتقدمة أصدرت المحكمة قرارًا بذلك يثبت فى محضر الجلسة مع إشارة موجزة لسببه، ......" ومن ثم فإن ماورد من تسبيب موجز فى القرار المطعون عليه متساندًا إلى الحجية المطلقة للحكم الصادر فى القضية رقم 183 لسنة31 قضائية " دستورية " برفض الطعن بعدم دستورية المادة (534) من قانون التجارة، يعد على مقتضى المادة (44 مكررًا) من قانون المحكمة الدستورية العليا، كافيًا لحمل ما انتهى إليه المنطوق.

 

بنـــــــــاء الحكـــــــم الدستـــــــوري:

يمر الحكم الدستوري قبل صياغته وإصداره بمرحلة بناء وجداني يتشكل فيها وجدان قاضي الدستورية، وتتكون عقيدته، ثم يفرغ هذه العقيدة في الأوراق على شكل ونمط محدد، وبيانات يلزم إيرادها، وأسلوب صياغة محكمة، وأسباب متسلسلة مرتبة تنتهي بمنطوق يقـوم عليهـا، ولا يتعارض معها. و«البناء المادي» للحكم سهل التشييد ما دام قد تكون «البناء الوجداني» واستقرت العقيدة.

ولنتناول في صورة موجزة «البناء الوجداني»، ثم «البناء المادي»..

أ - البنـــــــــاء الوجدانـــــــي للحكــــــــــــم الدستــــــــــوري:

كيـــــــــــــف تتكــــــــــون عقيــــــــــدة القاضــــــــــي الدستــــــــــوري؟

سؤال مهم لا بد من الإجابة عنه، لأن الأمر لا يتعلق بوقائع وأوراق يستخلص من خلالها القاضي عقيدته، وإنما الأمر يتعلق بدولة لها أيديولوجية محددة ودستور يجري بهذه الأيديولوجية، ونص تشريعي أو لائحي متهم بخرقه لهذه الأيديولوجية أو النظرية المتكاملة التي تربط بين نصوص الدستور.

فالدستور الذي يقوم على حمايته قضاة المحكمة الدستورية العليا، لا يعبر عن قيم مثالية، أو فلسفة نظرية منفصلة عن محيطها الاجتماعي، بل هي قواعد قانونية ملزمة ناتجة في مجموعة من أيديولوجية اعتنقها الشعب وجعلها نظامًا له يحقق مصالحه في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وفي ذلك تؤكد المحكمة الدستورية العليا: « وحيث إن رقابة هذه المحكمة للنصوص التشريعية المطعون عليها إنما تتغيا ردها إلى أحكام الدستور تغليباً لها على مادونها وتوكيداً لسموها على ماعداها لتظل الكلمة العليا للدستور باعتباره القانون الأساسى الأعلى الذى يرسى القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم فيحدد للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية صلاحياتها واضعاً الحدود التى تقيد أنشطتها وتحول دون تدخل كل منها فى أعمال الأخرى، مقرراً الحقوق والحريات العامة مرتباً ضماناتها. وقد جرى قضاء هذه المحكمة على أن نصوص الدستور تتوخى أن تحدد لأشكال من العلائق السياسة والاجتماعية والاقتصادية مقوماتها، ولحقوق المواطنين وحرياتهم تلك الدائرة التى لايجوز اقتحامها، فلايمكن أن تكون النصوص الدستورية -وتلك غاياتها- مجرد نصوص تصدر لقيم مثالية ترنو الأجيال إليها، وإنما قواعد ملزمة لايجوز تهميشها أو تجريدها من آثارها أو إيهانها من خلال تحوير مقاصدها أو الإخلال بمقتضياتها أو الإعراض عن متطلباتها، فيجب دوماً أن يعلو الدستور ولايعُلى عليه وأن يسمو ولايُسمى عليه.

وحيث إنه ولئن كان صحيحاً أن الرقابة القضائية التى تباشرها هذه المحكمة فى شأن الشرعية الدستورية لاتستقيم موطئاً لإبطال نصوص قانونية يحتمل مضمونها تأويلاً يجنبها الوقوع فى هاوية المخالفة الدستورية، فإنه من المسلم أيضاً أنه إذا مااستعصى تفسير النصوص المطعون عليها بمايوائم بين مضمونها وأحكام الدستور، فإن وصمها بعدم الدستورية يغدو محتماً ؛ إذ لايسوغ أن تفسر النصوص القانونية قسراً على وجه لاتحتمله عباراتها ولايستقيم مع فحواها بقصد تجنب الحكم بعدم دستوريتها ؛ وإلا انحلت الرقابة الدستورية عبثاً.

وحيث إن الأصل فى النصوص الدستورية أنها تعمل فى إطار وحدة عضوية تجعل من أحكامها نسيجاً متآلفاً متماسكاً، بما مؤداه: أن يكون لكل نص منها مضمون محدد يستقل به عن غيره من النصوص استقلالاً لايعزلها عن بعضها البعض، وإنما يقيم منها فى مجموعها ذلك البنيان الذى يعكس ما ارتأته الإرادة الشعبية أقوم لدعم مصالحها فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولايجوز بالتالى أن تفسر النصوص الدستورية بما يبتعد بها عن الغاية النهائية المقصودة منها، ولا أن ينظر إليها بوصفها هائمة فى الفراغ، أو باعتبارها قيماً مثالية منفصلة عن محيطها الاجتماعي.

ولعل الأساس الأول في تكوين عقيدة القاضي الدستوري يأتي من التفسير الموضوعي للنصوص الدستورية، تفسيرًا يكون موسعًا لنطاق الحقوق والحريات، مضيقًا لمفاهيم القيود التي ترد عليها لتنظيمها. وذلك في إطار من اعتقاد بوجوب وحدة تجمع هذه النصوص، يتشكل منها بنيان موضوعي للقيم، على الأخص حينما يتعلق الأمر بتحقيق ديمقراطية برلمانية حرة وتمثيلية تعززها حقوق الأفراد وحرياتهم التي أدرجوها في الدستور. وعلى اعتبار أن هذه القيم ليست مجرد قيم فلسفية، ولكنها لكل قيمة منها وجود واقعي تقيد كل سلطة وتلزمها بالنزول عليها في إطار عناصر نظامها القانوني ومفرداته.

ويلاحظ أن فهم جهة الرقابة على الدستورية للقيم التي يحتضنها الدستور، إما أن يتم على ضوء نظرة تحررية، تأخذ في اعتبارها الحرية الاقتصادية، والحق في تقرير المصير، وتؤكد الطبيعة السلبية لحقوق الفرد في مواجهة الدولة أو نظرة تربط حقوق الفرد بالتجمعات المختلفة، كالجماعات الدينية، ووسائل الإعلام، مراکز البحث العلمي، وعلاقات الزواج والأسرة، أو على ضوء نظرة قوامها أن لهذه القيم خصائصها الذاتية النابعة من كرامة الإنسان، والمتولدة عن ملامح النفس البشرية وطبيعتها.

وقد ينظر إلى هذه القيم على ضوء ما يلابس بعض هذه الحقوق من ملامح سياسية ذات طبيعة عرضية في حرية التعبير والاجتماع، فضلاً عن الدور الذي تلعبه الانتخابات والأحزاب السياسية، فضلاً عن نظرية اجتماعية لهذه القيم تركز على أهمية العدالة الاجتماعية والحقوق الثقافية والأمن الاجتماعي.

وليس من المعتاد أن تعتد جهة الرقابة على الدستور في مجموعها حال بحثها عن القيم الكامنة وراء نصوص الدستور بنظرية معينة دون أخرى، ولكنها تعمل على التوفيق بين عناصرها وتزيل التوتر بينها قدر الإمكان.

وقد يكون لنفرٍ من قضاة الدستورية المتداولون من له فلسفة خاصة متميزة اكتسبها خلال فترة توليه الوظيفة القضائية، وكان لها أثرها فى آرائه وتوجهاته أثناء مباشرتها.

وربما كان أكثر القضاة خبرة، أبلغهم فى التعبير عن القيم التى يتصورها نهجًا أفضل للحياة.

كذلك فإن لكل خبرة قضائية وزنها وأثرها فى قرار جهة الرقابة على الشرعيـة الدستوريـة، ولا يتصور مع تخلفها أن يكون أداء هذه الجهة فاعلاً، ولا أن يكون للقاضى مكانة أيا كان قدرها، إذ كان يعمل بغير اقتناع أو بطريقة سلبية، أو على نحو يكون فيه مخادعًا، متجاهلاً خصائص الوظيفة القضائية ومتطلباتها.

ويظل وهمًا ما يقال أن القضاة بوسعهم الانفصال عن خبراتهم السابقة التى تشكل خلفية تتحدد على ضوئها قراراتهم فى المسائل الدستورية التى يبحثونها.

ويظل ثابتًا أن القضاة فى كل عصر لا يدونون فى أحكامهم غير القيم التى يتصورونها أكثر صوابًا - ما كان منها شخصيًا أو اجتماعيًا - وهم يصوغون لهذه القيم معانيها التي يرونها أكثر تعبيرا عنها، وأوفي حماية لها.

ولا شك أن النظرة المتعمقة لأحكام جهة الرقابة القضائية على الدستورية تدل على أن قضاتها يرتبطون بوجه أو بأخر ببعض القيم الشخصية أو بفلسفة خاصة يرونها أكثر صوابًا من غيرها.

ويظل أمرًا غير مفهوم عزل هذه الجهة عن قضاتها الذين كان لقوة شخصيتهم أثر هام في مجال تطويرها، ولوزنهم قوة مؤثرة لا تقل شأنا عن نصوص قاطعة يتضمنها الدستور، ولا عن مبادئ راسخة عززتها السوابق القضائية التي دل ثباتها على استقرارها (1).

بجانب هذه العوامل الشخصية والفلسفات الخاصة بكل قاض من قضاة جهة الرقابة الدستورية، فإن ثمة عوامل موضوعية تهيمن على البناء الوجداني للحكم الدستوري، وتشكل عاملاً رئيسيًا في تكوين عقيدة قضاة الدستورية حال فصلهم في دستورية نص ما.

ولعل أهم هذه العوامل الموضوعية مراعاة الحجية المطلقة لأحكام المحكمة الدستورية السابقة، والمنظمة للموضوع المعروض، أو لجانب منه، وإن كان هذا الأمر ليس مأخوذًا على إطلاقه في بعض الأحيان، إذا ما استبان أن الحكم السابق يحول دون تطوير الدستور.

كما أن للرأي العام تأثير لا ينكر في عملية صنع القرار، إذ ينبغي أن يكون هناك قدر معقول من الدعم العام للأحكام القضائية، وهو أمر واقعي لا يتنافى مع استقلال القاضي من الناحية الفنية وعدم الخضوع لأية مؤشرات.

والواقع السياسي له أيضًا تأثير على القاضي الدستوري في مرحلة تكوين العقيدة، فلا يستطيع القاضي الدستوري أن يعيش معصوب العينين أو في برج عاجي، معزولاً عن الواقع المحيط به.

كما أن للاعتبارات العملية أهمية كبيرة على عملية صنع القرار الصادر من جهة الرقابة الدستورية تجعل القاضي يقف كثيرًا أمام بعض المسائل، محاولا وزنها بدقة، ومحاولة التوفيق بين العديد من الاعتبارات للحيلولة دون حدوث أزمة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، يمكن أن تترتب على القضاء في دستورية نص ما.

ب- البنــــــــــاء المــــــــــادي للحكــــــــــم:

إذا كانت الدعوى الدستورية تغاير في طبيعتها وبعض جوانبها الدعاوی العادية، فإن البناء المادي للحكم يغاير أيضًا بناء الحكم الصادر في الدعاوى الأخري، إذ أنه يجب أن يشتمل بالإضافة إلى البيانات الأساسية بيانات أخرى تربط بين الدعوى الموضوعية والدعوى الدستورية، وينقسم بناء الحكم الدستوري إلى أربعة أجزاء.

وأما عن البيانات الأساسية للحكم، فيجب أن يذكر في الحكم أنه صادر باسم الشعب وتاريخ الحكم، والهيئة التي أصدرته والمكونة من سبعة أعضاء بما فيهم رئيس الدائرة الذي يكون في الغالب الأعم من الأحكام هو رئيس المحكمة الدستورية العليا،ونحيل في بيانات الحكم إلى القواعد العامة في قانون المرافعات المدنية والتجارية، التي يجري نص المادة: (۱۷۸) منها على أن: «يجب أن يبين في الحكم، المحكمة التي أصدرته، وتاريخ إصداره، مكانه، وما إذا كان صادرا في مادة تجارية أو مسألة مستعجلة، وأسماء القضاة الذين سمعوا المرافعة واشتركوا في الحكم تلاوته وعضو النيابة الذي أبدى رأيه في القضية - إن كان - وأسماء الخصوم، وألقابهم، وصفاتهم وموطن كل منهم، وحضورهم، وغيابهم.

- كما يجب أن يشتمل الحكم على عرض مجمل لوقائع الدعوى، ثم طلبات الخصوم، وخلاصة موجزة لدفوعهم، ودفاعهم الجوهري، ورأي النيابة، ثم تذكر بعد ذلك أسباب الحكم، ومنطوقه.

والقصور في أسباب الحكم الواقعية والنقص أو الخطأ الجسيم في الخصوم وصفاتهم، كذا عدم بيان أسماء القضاة الذين أصدروا الحكم يترتب على بطلان الحكم.

والواقع، أن البيانات الجوهرية التي أوردتها المادة: (۱۷۸) من قانون المرافعات ينطبق في جوهره على الحكم الصادر في الدعوى الدستورية، مع إبراز أن ثمة بيانات لا يمكن إيرادها في الحكم الدستوري، وبيانات أخرى لا بد من إيرادها لم ترد في نص المادة: (۱۷۸) من قانون المرافعات، تمليها طبيعة الدعوى الدستورية والحكم الصادر فيها.

ونعرض للبيانات الجوهرية الواجب توافرها في الحكم الدستوري، وإلا كان باطلاً.

1- صدوره باسم الشعب.

2- المحكمة الدستورية العليا.

3- مكان إصدار الحكم: مقر في المحكمة الدستورية العليا، وهو مقر ثابت لا يتغير هو مدينة القاهرة، طبقًا لنص المادة [191] من الدستور.

4- أسماء القضاة الذين سمعوا المرافعة، واشتركوا في الحكم، وحضروا تلاوته.

5- أسماء الخصوم، وألقابهم، وصفاتهم.

6- اعتبار الحكومة دائمًا من ذوي الشأن في الدعاوى الدستورية، فيجب ذكر من يمثلها سواء رئيس مجلس الوزراء، أو رئيس الجمهورية.

7- عرض مجمل للطلبات في الدعوى الدستورية.

8- رأي هيئة قضايا الدولة، وما قدمته، أو أودعته من دفاع.

9- رأي هيئة المفوضين لدى المحكمة الدستورية العليا.

10- عرض الوقائع المتعلقة بالدعوى الموضوعية.

11- كيفية اتصال المحكمة الدستورية العليا بالدعوى الدستورية. هل هى عن طريق الدفع، أم الإحالة، أم التصدي.

12- أوجه النعي المثارة في الدعوى الدستورية.

- كيفيـــــــــة توزيـــــــع هـــــــــذه البيانــــــــات فـــــــــي الحكـــــــــم:

للحكم الدستوري أربعة أجزاء تتوزع عليها هذه البيانات، وذلك على النحو التالي:

أولاً – وقائــــــــع وإجــــــــــراءات الدعـــــــــوى الدستوريـــــــــة:

يبدأ بناء الحكم الدستوري بعد إيراد أن الحكم صدر باسم الشعب، وأنه صادر من المحكمة الدستورية العليا بالقاهرة، والهيئة التي أصدرته، وتاريخ صدوره،وأسماء الخصوم، والطلبات الختامية في الدعوى الدستورية من واقع الصحيفة أو حكم، أو قرار الإحالة.

ثم يذكر ما قدمته هيئة قضايا الدولة من دفاع، أو إذا كان أي من الخصوم الآخرين قدّم دفاعًا، ثم إن هيئة المفوضين تولت تحضير الدعوى، وقدمت تقريرًا برأيها.

ويوضع كل ذلك في الحكم تحت عنوان: «الإجراءات»..

ثانيًا - وقائــــــــع الدعــــــــوى الموضوعيــــــــة، والربــــــــط بينها وبين الدعــــــــوى الدستوريــــــــة:

في هذا الجزء، يُذکر موجز عن الدعوى الموضوعية، والطلبات فيها بصورة مجملة، وما أبدى فيها من دفاع، إلى أن نصل إلى إبداء الدفع بعدم الدستورية وتقدير جديته، وتصريح محكمة الموضوع للخصوم أو الخصم مبدي الدفع، والمهلة التي منحتها محكمة الموضوع لإقامة الدعوى الدستورية، ثم إقامتها من جانب الخصم الذي أبدى الدفع، هذا بالنسبة للدعاوى التي تقام بطريقة الدفع.

أما الدعاوى التي تقام عن طريق الإحالة، فيلزم لها إيراد خلاصة وعرض لمجمل الوقائع والطلبات. في الدعوى الموضوعية، إلى أن نصل إلى أن المحكمة تراءى لها مخالفة أحد النصوص اللازمة للفصل في الدعوى لنصوص في الدستور، مع بيان أوجه المخالفة.

ثالثًا : الأسبـــــــــاب:

يعرض الحكم الدستوري بعد الوقائع أسباب الحكم، وهي تتناول الرد على أوجه النعي المثارة من جانب الطاعن أو الطاعنين، وما يثار من جانب المدعي عليهم وبخاصة هيئة قضايا الدولة، وفى مجال الأسباب فإن المحكمة الدستورية العليا تؤكد أن رقابتها على دستورية النص التشريعى أو اللائحى هى رقابة شاملة لا تقتصر على أوجه العوار التى أوردها الطاعن وإنما تمتد لتشمل كل وجه للعوار تراه المحكمة ليصبح بعد ذلك النص غير قابل لتوجيه أى طعن عليه.

رابعًا: منطــــــــوق الحكــــــــــم:

يذكر فيه القضاء الذي فصلت فيه المحكمة الدستورية العليا بشأن النص أو النصوص التي عرضت عليها، والتي كانت مثارا للمناضلة بين الخصوم.

والقول الفصل في الدعوى إما بعدم الدستورية، أو برفض الدعوى، أو بعدم القبول، أو انتهاء الخصومة، أو بعدم الاختصاص.. إلخ.

يضاف إلى ذلك التصرف في الكفالة بمصادرتها، والفصل في المصروفات وأتعاب المحاماة.