بين فيينا والسيادة وصعوبات التنفيذ.. كيف تطبق "الدستورية" اختصاصها الجديد؟
أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخرا تعديل قانون المحكمة الدستورية العليا[1]، بما يجيز للحكومة أن تطلب منها "عدم الاعتداد" بـ "قرارات المنظمات والهيئات الدولية وأحكام المحاكم الأجنبية، المطلوب تنفيذها في مواجهة الدولة، أو بالالتزامات المترتبة على تنفيذها" وذلك بعدما سحبت الحكومة من البرلمان مقترحها بتطبيق هذه الصورة الرقابية الجديدة للمحكمة على أحكام هيئات التحكيم، أي في المنازعات التي تكون مصر طرفا فيها.
قبل إصدار القانون تحدث كثيرون عن عيوبه ومفارقاته، مطالبين مجلس النواب ثم رئيس الجمهورية بعدم إصداره، أو فتح حوار قانوني اقتصادي موسع حول آثاره السلبية المحتملة. أما الآن وقد صدر وأصبح واقعا، يجب التعامل معه، تجدر إثارة بعض الملاحظات والتساؤلات حول تطبيقه، في ظل أوضاع تشريعية مستقرة ومبادئ قضائية سابقة للمحكمة الدستورية ذاتها.
حيث لم تفصح المذكرة الإيضاحية للقانون وقت تقديمه كمشروع عن هدفه، إلا من إشارة صريحة لاعتبارات "الأمن القومي"[2]. كما أن سحب جزئية هيئات التحكيم لم يتم تبريره بشكل موضوعي معلن[3]، على الرغم من أن هذا كان يتطلب من البرلمان أسئلة أكثر وأعمق حول سبب تضمينها في المشروع أولا، ثم سحبها وترك "قرارات المنظمات والهيئات الدولية وأحكام المحاكم الأجنبية" ثانيا.
وقرارات المنظمات والهيئات الدولية، التي انضمت مصر إليها بالفعل وصدقت على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المنشأة لها والمنظمة لعملها، يضعها التدرج التشريعي الطبيعي في مرتبة القانون بعد الدستور.
فالمادة 151 تنص على أن "يمثل رئيس الجمهورية الدولة في علاقاتها الخارجية، ويبرم المعاهدات، ويصدق عليها بعد موافقة مجلس النواب، وتكون لها قوة القانون بعد نشرها وفقا لأحكام الدستور….. وفي جميع الأحوال لا يجوز إبرام أية معاهدة تخالف أحكام الدستور……"
والمادة 93 تنص على أن "تلتزم الدولة بالاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي تصدق عليها مصر، وتصبح لها قوة القانون بعد نشرها وفقاً للأوضاع المقررة".
واعتبرت المحكمة الدستورية منذ الثمانينيات "إبرام الاتفاقيات الخاصة بالعلاقات الدولية وتقتضيها السياسة العليا للبلاد، ضمن أعمال السيادة التى ينبغى أن تنحسر عنها الرقابة القضائية الدستورية".
وذكرت أن "القضاء والفقه استقرا على استبعاد أعمال السيادة من رقابة القضاء" وأن "أعمال السيادة تستبعد من رقابة القضاء تحقيقا للاعتبارات السياسية التى ترتبط بنظام الدولة السياسى أو بسيادتها فى الداخل والخارج".[4]
ولم تتعامل المحكمة مع جميع الاتفاقيات الدولية كأعمال سيادة، بل فرّقت بينها "بناء على طبيعتها وليس على ما يضفيه المشرع عليها من أوصاف" وبين ما يُبرم "استجابة لدواعى الحفاظ على الدولة والذود عن سيادتها ورعاية مصالحها العليا" وبين ما ينتج عن إبرامه أنشطة أخرى لا تمس الجانب السياسي.[5]
واستمرت المحكمة في نهجها الذي يعتبر الاتفاقيات السياسية من أعمال السيادة حتى حكمها الشهير في مارس 2018 في قضية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية والمعروفة إعلاميا بـ"تيران وصنافير" والذي ألغى جميع الأحكام المتناقضة في القضية من مجلس الدولة والأمور المستعجلة[6].
وتضمن هذا الحكم عدة فقرات مهمة تقرّب المحكمة من الرقابة الدستورية على الاتفاقيات الدولية من جانب، وتبعدها من جانب آخر.
فقدم تعريفا أوسع للاتفاقيات كأعمال سيادة وسياسة: "ثمة عناصر ومميزات تميز هذه الأعمال عن الأعمال الإدارية العادية، أهمها تلك الصبغة السياسية البارزة فيها، فهى تتصل بنظام الدولة السياسى، أو بسيادتها فى الداخل أو الخارج، اتصالا وثيقا، إذ تصدر عن السلطة التنفيذية بوصفها سلطة حكم، وبما لها من سلطة عليا لتحقيق مصلحة الجماعة السياسية كلها والسهر على احترام دستورها والإشراف على علاقتها مع الدول الأخرى وتأمين سلامتها وأمنها فى الداخل والخارج".
ثم تطرق الحكم إلى شرح الرقابة القضائية على هذه الاتفاقيات، فحظر على القضاء بجميع جهاته ومحاكمه التدخل فى إجراءات إبرام الاتفاقية والتصديق عليها حتى تمامها، فإذا نُشرت المعاهدة وفقا للأوضاع المقررة فى الدستور، وأصبح لها قوة القانون، جاز مراقبتها قضائيا من وجهين: الأول إجرائي بالرقابة على استيفاء الاتفاقية للشروط الإجرائية، والثاني موضوعي بالرقابة على مدى مخالفة المعاهدة لأحكام الدستور.
وفي كلا الوجهين حدد الحكم أن المحكمة الدستورية العليا هي المختصة وحدها بهذه الرقابة "استئثارا، لا تشاركها فيها جهة قضائية أخرى أيا كانت" بما يعني عدم اختصاص مجلس الدولة أو القضاء العادي.
وهكذا وسّعت المحكمة الدستورية -نظريا- رقابتها على الاتفاقيات الدولية، ولكن من الناحية العملية فإنه يتوجب لتفعيل هذا الدور سلك سبيل صعب في ظل عدم إمكانية رفع دعوى دستورية مباشرة، فليس أمام المدعي المتضرر من اتفاقية دولية إلا اللجوء أولا لمحكمة موضوع (بمجلس الدولة أو القضاء العادي) والدفع أمامها ببطلان الاتفاقية، أو مطالبة المحكمة بالتصريح بالطعن، وهذا السبيل من الصعب للغاية أن يؤدي لوصول الاتفاقية الدولية المطعون فيها إلى المحكمة الدستورية.
وحتى إذا وصلت الاتفاقية المحكمة الدستورية، فطالما لا تخالف الاتفاقية أحكاما دستورية صريحة، فالرقابة مقيدة بتفسيرها السابق لنظرية أعمال السيادة، ومما ذكرته في هذا المقام في حكم تنازع تيران وصنافير أيضا:
"منح السلطة التنفيذية، فى شأن الأعمال السياسية، سلطة تقديرية أوسع مدى وأبعد نطاقا، ومن ثم استبعادها من ولاية القضاء عامة، تحقيقا للغايات المتقدمة، واتساقا مع الاعتبارات السياسية التى تقتضيها طبيعة هذه الأعمال، بل إن خروج الأعمال السياسية عن ولاية القضاء يعد إحدى صور التطبيق الأمثل لإعمال المفهوم الصحيح لمبدأ الفصل بين السلطات، الذى يوجب إقامة توازن دقيق بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بحيث تتولى كل من هذه السلطات صلاحياتها التى خلعها عليها الدستور وفى الحدود التى رسمها دون افتئات من إحداها على الأخرى".
وبناء على المبادئ السابقة، وبالتطبيق على القانون الجديد، تستطيع المحكمة الدستورية حاليا بناء على دعوى من الحكومة، أن تحكم بعدم الاعتداد بقرار دولي، صادر في مواجهة مصر، بناء على اتفاقية دولية، لم تستطع المحكمة الدستورية نفسها الرقابة عليها، أو من منظمة أو هيئة انضمت لها مصر، دون أن يكون للمحكمة الدستورية نفسها الرقابة على هذا الانضمام.
وتنعكس هذه الحالة الشاذة بالسلب على مبدأ الاختصاص الولائي للقضاء الوطني/المحلي وفقا للقواعد المستقرة في القانون الدولي العام، المستمدة من العرف الدولي، بعدم خضوع الأشخاص ذوي الصبغة الدولية أو الأجنبية، من دول ومنظمات وهيئات ومجالس ومحاكم أجنبية، للقضاء المحلي، في التصرفات التي تتعلق بها كأشخاص دولية، مما يمتنع معه على القضاء المحلي التعرض للمنازعات التي يكون من أطرافها شخص من أشخاص القانون الدولي العام.
وهنا تثور إشكالية أن اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات الدولية التي وقعت عليها مصر وأصبحت جزءا من التشريع الداخلي[7] تنص على أن "كل معاهدة نافذة ملزمة لأطرافها وعليهم تنفيذها بحسن نية"، وأنه "لا يجوز لطرف في معاهدة أن يحتج بنصوص قانونه الداخلي كمبرر لإخفاقه في تنفيذ المعاهدة" مما يعني أنه لا يجوز التحفظ أو الامتناع عن تنفيذ معاهدة أو اتفاقية معينة إلا في الحدود التي تسمح بها تلك المعاهدة أو الاتفاقية.[8]
وبافتراض صدور قرار أو حكم من هيئة دولية أو أممية، فما من وسيلة تمنع تطبيقه في ظل تمتع تلك الهيئات بالحصانة الكاملة والشخصية القانونية والإرادة الذاتية المعترف بها من جميع دول العالم بما فيها مصر، ولا يمكن تعطيل نفاذها بواسطة حكم قضائي محلي، له بلا شك حجية مطلقة، ولكن فقط على المستوى الإقليمي، وفي مواجهة الدولة المصرية والشعب المصري وحدهما.[9]
وتتكامل هذه النقطة مع مبدأ إقليمية الدستور والقوانين، باعتبار أن الرقابة الدستورية التي تباشرها المحكمة الدستورية العليا مناطها تعارض النصوص القانونية المطعون عليها مع أحكام الدستور، باعتبارها وثيقة يقتصر سريانها على نطاقها الإقليمي، ولا يمتد مجال تطبيقها إلى غيرها من الدول أو غيرها من أشخاص القانون الدولي العام.[10]
وبافتراض صدور حكم من محكمة أجنبية تابعة لدولة أخرى، ومنعت المحكمة الدستورية بناء على طلب الحكومة نفاذ هذا الحكم بالداخل المصري، فما من وسيلة قانونية معروفة يمكن اتباعها لمنع السلطات القضائية والتنفيذية في الخارج من تطبيق ذلك الحكم إذا استطاعت، إلا بموجب القواعد القانونية الإقليمية الخاصة بالدولة ذاتها، أو الاتفاقيات الخاصة بينها وبين مصر.
ولا يُتصور أن حكم الدستورية في هذا السياق يمكن استخدامه لمنع النفاذ، إلا إذا كان سيُستخدم كسند قانوني محلي لفعل سياسي أو تنفيذي أو خطاب إعلامي موجه للخارج.
على صعيد آخر؛ يجب التنبه إلى أن تعرض المحكمة الدستورية لتلك القرارات والأحكام الدولية والأجنبية، قد يتسيب في خلخلة التنظيم القانوني والقضائي للتعامل مع أعمال السيادة والقرارات الأجنبية.
فما ستسطره المحكمة من حيثيات يمكن الاستعانة به مستقبلا كسند لإقامة دعاوى من آخرين، مصريين وأجانب، مما قد يفجر بركانا لن يُخمد بسهولة من دعاوى تتعلق بالتزامات مصر الدولية وتمس علاقاتها الخارجية، والتي ليس من مصلحة أي سلطة تداولها في ساحات القضاء.
ولسنا هنا في معرض استباق تطبيق المحكمة للقانون، ولكن المادة المستحدثة 27 مكررا والتي تضيف للمحكمة اختصاص الرقابة على النحو السالف بيانه، لم تشترط أن تتولاها فقط عند رفع رئيس الوزراء طلبه المذكور في المادة 33 مكررا المستحدثة أيضا، كما أن صياغة تلك المادة "لرئيس مجلس الوزراء أن يطلب من المحكمة الدستورية العليا...." تحمل معنى جوازيا، ولا تقصر طلب مباشرة هذه الرقابة على رئيس الوزراء وحده، وهي إشكالية أخرى في الصياغة، ربما لا تفسرها إلا المحكمة في تطبيقاتها المختلفة للتعديل الجديد.
والأرجح، بتكامل النصوص الجديدة مع مواد القانون الأخرى، أن يقدم رئيس الوزراء هذا الطلب لعدم الاعتداد بالقرارات والأحكام المطلوب تنفيذها في مواجهة الدولة أو بالالتزامات المترتبة على تنفيذها، بحيث سيحدد في طلبه النص أو الحكم الدستوري المدعى بمخالفته ووجه المخالفة، وذلك في صورة أقرب إلى "دعوى منازعة التنفيذ" التي تقام كدعوى لعدم الاعتداد أو وقف تنفيذ حكم قضائي بدعوى مخالفته لمبادئ وأحكام المحكمة الدستورية العليا ذاتها.
ومع التأكيد على ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة لحماية الأمن القومي المصري، أتساءل عمّا إذا كانت تلوح في الأفق أي أخطار تستدعي الدخول في هذه الإشكاليات التشريعية والقضائية التي -ربما- تخلّف صورة سلبية عن مصر، بينما تتطلب الظروف الحالية توجيه رسائل إيجابية إلى المنظمات الدولية بالحرص على تنفيذ قراراتها والبناء على ما تتميز به مصر من مصداقية دولية ومبادرة دائمة للاندماج في المجتمع الدولي، والبلاد في خضم صراع سياسي ودبلوماسي مع إثيوبيا في قضية سد النهضة على جبهات متعددة منها مجلس الأمن، ومن المحتمل أن يصل إلى المحاكم أو هيئات التحكيم الدولية يوما ما.[11]
الهوامش
[1] القانون 137 لسنة 2021 – الجريدة الرسمية – العدد 32 مكرر (أ) بتاريخ 15 أغسطس 2021
[2] جاء في خطاب رئيس الوزراء إلى مجلس النواب أن التعديل "يهدف إلى قيام الدولة بالتعامل الإيجابي وفقا للمصالح الوطنية وفي إطار من الدستور والقانون مع أي من القرارات الدولية التي قد تؤثر على أمنها القومي" وفي المعنى ذاته لجنة الشئون الدستورية والتشريعية في تقرير موافقتها على مشروع القانون إنه "يعد نقلة في النظام التشريعي لحماية الأمن القومي المصري" وذلك على ضوء "المتغيرات الدولية والسياسية ومتطلبات الحفاظ على الأمن القومي المصري....نظرا لوجود النزاعات والقرارات المستجدة على الساحة الدولية وصدور بعض القرارات والأحكام من بعض المنظمات والهيئات الدولية والمحاكم الدولية وهيئات التحكيم الأجنبية، والتي قد لا تستند إلى أي مشروعية قانونية.
[3] نُشر نبأ حذف عبارة "هيئات التحكيم الأجنبية" في المواقع الإخبارية مساء يوم الموافقة النهائية على المشروع ومن دون أي إشارة إلى مداولات حول الأمر، مثال ذلك من "المصري اليوم" https://www.almasryalyoum.com/news/details/2362699
[4] الحكم في الدعوى 48 لسنة 4 (دستورية) الصادر بتاريخ 21 يناير 1984 والقاضي منطوقه بعدم الاختصاص بالنظر في عدم دستورية المادتين الثالثة والخامسة من اتفاقية تنظيم إقامة الجيوش العربية في البلد الذي تقتضي الضرورات العسكرية بانتقالها إليه.
[5] الحكم في الدعوى 10 لسنة 14 (دستورية) الصادر بتاريخ 19 يونيو 1993 والقاضي منطوقه بعدم قبول الطعن بعدم دستورية المواد أرقام (9، 12، 13 ) من اتفاقية تأسيس المصرف العربى الدولى للتجارة الخارجية والتنمية، وبرفض الطعن بعدم دستورية ما تتضمنه المادة (15 ) منها من استبعاد تطبيق القوانين والقرارات المنظمة لشئون العمل الفردى على العاملين بالمصرف، حيث ذهبت المحكمة إلى إخضاع ما يترتب على تلك الاتفاقية من أوضاع تخص العاملين في مصر، لرقابتها، لكنها وجدت أنها لا تخالف الدستور.
[6] الحكم في الدعوى 12 لسنة 39 (تنازغ) الصادر بتاريخ 3 مارس 2018
[7] قرار رئيس الجمهورية 535 لسنة 1981
[8] http://hrlibrary.umn.edu/arabic/viennaLawTreatyCONV.html
[9] يراجع في هذا المعنى حكم المحكمة الدستورية العليا في الدعوى 30 لسنة 17 (دستورية) الصادر بتاريخ 2 مارس 1996 والقاضي منطوقه بعدم الاختصاص بنظر الطعن على القانون 143 لسنة 1984 بانسحاب مصر من اتحاد الجمهوريات العربية (الوحدة الكونفيدرالية مع سوريا وليبيا)
[10] أشار قسم التشريع بمجلس الدولة إلى هذه النقطة باعتبارها من الأسباب الرئيسية لتحفظه على مشروع القانون وقت عرضه عليه في يناير 2021 والذي انتهى فيه إلى إعادة المشروع إلى مجلس الوزراء مصحوبا باعتراضات شتى على جميع أجزائه.
[11] إثيوبيا –على عكس مصر- لا تعترف حتى الآن باختصاص فض المنازعات لمحكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة. لكن القانون الجديد 137 لسنة 2021 يجيز لمصر وقف تنفيذ أي من القرارات أو الأحكام الدولية والأجنبية، بصيغة تشمل جميع المجالس والهيئات والمحاكم التابعة للأمم المتحدة.