ما بين ضمانات التقاضي ومعايير المحاكمة العادلة والمنصفة: هل تحقق تعديلات القوانين الجنائية “العدالة الناجزة"؟
في ٢٧ أبريل الماضي، صدق الرئيس عبد الفتاح السيسي على حزمة من التعديلات على عدد من القوانين الجنائية ليسدل الستار على الجدل المستمر حول ماهية التعديلات المقترحة على القوانين الجنائية بهدف “تسريع إجراءات التقاضي” على إثر دعوة الرئيس لتعديل القوانين المٌكبِلة لتحقيق العدالة الناجزة[1] بعد حادث الكنيسة البطرسية أواخر العام الماضي.
النظرة السريعة على محتوى هذه الحزمة تشي بأننا بصدد تعديل واسع وجذري لبيئة التشريع الجنائي في مصر، حيث اشتمل القانون رقم (١١) لسنة ٢٠١٧ على تعديلات لنصوص مواد قوانين: الإجراءات الجنائية، قانون إجراءات وحالات الطعن أمام النقض، قانون تنظيم الكيانات الإرهابية والإرهابيين، وقانون مكافحة الإرهاب، فيما تناول القانون رقم (١٢) لسنة ٢٠١٧ تعديلين على قانون الطوارئ، فهل تحقق هذه التعديلات الهدف المعلن لها وهو “تحقيق العدالة الناجزة؟”.
إن القراءة الموضوعية لتعديلات القوانين الجنائية الأخيرة تستوجب إلقاء النظرعلى تجربة انعقاد ورش العمل التحضيرية لمؤتمر “العدالة الناجزة” مع بداية العام الجاري[2] الذي كان مقرراً عقده بهدف تطوير المقترح المقدم من الأمانة العامة للجنة الإصلاح التشريعي لتطوير منظومة الإجراءات في الدعوى الجنائية، حيث شهدت ورش عمل المؤتمر مشاركة من كافة المعنيين والمخاطبين ببيئة التشريع الجنائي وسماع كافة المقترحات المقدمة من قضاة ورؤساء الدوائر الجنائية بمحاكم النقض والاستئناف، وممثلي جهات إنفاذ القانون، بجانب عدد من الفقهاء القانونيين والأكاديميين والمحامين ممن انخرطوا في عدد من النقاشات الموسعة حول جوهر التعديلات المطلوبة لتطوير عملية التقاضي الجنائي.
لذا، فقد تفاعلت ”وحدة أبحاث القانون والمجتمع“ مع الجهود الجارية لتعديل القانون بتنظيم ندوة عامة بمقر الجامعة الأمريكية حول التعديلات المقترحة حيث أشار المشاركون لاتساع نطاق التعديلات المقترحة وشمولها لأكثر من جانب من جوانب التقاضي ما يؤشر على أن فلسفة التعديلات تهدف لإدخال تغييرات جوهرية في بيئة التشريع الجنائي.
هل توفر تعديلات القوانين الجنائية العدالة الناجزة في ضوء معايير المحاكمة العادلة والمنصفة؟
نص القانون رقم ١١ لسنة ٢٠١٧ على تعديل المادة (277) من قانون الإجراءات الجنائية[3]، بحيث صارت للمحكمة سلطة تقديرية في سماع الشهود وفي إستبعاد سماع شهادة أي من الشهود مع تسبيب قرارها في الحكم، مع إلزام الخصوم بتحديد أسماء وبيانات الشهود إختصاراً لإجراءات التقاضي، وهو ما أعاد للأذهان الجدل الذي أثير حول مشروع قانون “الإستغناء عن سماع الشهود” ورفضه وقتها قسم التشريع بمجلس الدولة، ما كان سبباً في خلاف شهير بين المجلس ووزير العدل وقتها المستشار/ أحمد الزند[4].
وارتباطاً بالتعديل السابق، فقد عُدلت المادة (٢٨٩) من قانون الإجراءات الجنائية بوجوب تلاوة المحكمة للشهادة المُبداة في التحقيق الابتدائي إذا تعذر سماع الشاهد لأى سبب من الأسباب”، بعد أن كانت التلاوة سابقاً جوازية، وهو ما نال ترحيب وإشادة عدد من القانونيين بهذا التعديل لما سيكون له من أثر في إنجاز إجراءات التقاضي دون الإخلال بأي من ضماناته، استناداً إلى أن طلبات إعادة سماع الشهود عادة ما تقدم “بقصد إطالة أمد التقاضي بغض النظر عن جدية الشهادة” وأن “تعنت المتهمين والدفاع فى طلب المستحيل أحيانا بحضور المئات من شهود إثبات أمام المحكمة فى قضية واحدة” عادة ما يتسبب فى تعطيل الفصل الدعوى[5]، على الرغم من إشارة البعض لشبهات عدم الدستورية المحيطة بهذا التعديل لسلبه واحدة من أهم حقوق المتقاضين[6].
وإختصاراً لإجراءات التقاضي ولتحايل بعض المتهمين من تنفيذ أحكام الإدانة الصادرة بحقهم غيابياً[7]، فقد جرى تعديل نصوص المواد (٣٨٤ و ٣٩٥) من قانون الإجراءات اائية بما يسمح بإضفاء صفة “الحضورية” على الأحكام الصادرة في غيبة المتهمين حال تخلفهم عن حضور الجلسات شرط حضور وكيلاً عنهم، وكذا إجازة طلب تقديم إعادة المحاكمة للمحكوم عليه غيابياً من جانب موكله الخاص قبل سقوط العقوبة بمضي المدة، بعد أن كان النص القديم ينص على إسقاط حجية الأحكام الصادرة غيابياً بمجرد القبض على المتهمين وإعادى محاكمتهم مرة أخرى مما يطيل أمد التقاضي.
تعديلات جذرية على نظام عمل محكمة النقض .. علامات استفهام حول التوقيتات؟
كذلك فقد أُدخلت تعديلات جوهرية على طريقة عمل قضاة محكمة النقض وعلى نظام التقاضي بها، على الرغم من تقدم مجلس القضاء الأعلى بطلب للحكومة لإرجاء مناقشة التعديلات المقترحة على القانون[8] لإعتبارات تتعلق بتأثير التعديلات على عدد القضايا المنظورة أمام دوائر المحكمة وهو ما سيزيد من الأعباء على عمل قضاة المحكمة.
فقد عُدل نص المادة (٣٩) من قانون “حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض” حيث أصبح لزاماً على المحكمة التصدى للقضية مباشرة كمحكمة موضوع من أول طعن لإختصار إجراءات التقاضي -لأول مرة في تاريخ المحكمة- وإلغاء سلطتها في إعادة الدعوة للمحكمة التي أصدرت الحكم حال تبينها بطلاناً به، بالإضافة لتعديل المادة (٤٤) من ذات القانون بإلزام المحكمة بإعادة القضية للمحكمة السابقة التي أصدرت الحكم المطعون فيه حال قبولها دفعاً قانونياً مانعاً في سير الدعوى استناداً للرأي القائل بداع إسراف المحكمة في إعادة القضايا مما عطل الفصل في قضايا كثيرة.[9]
وعلى الرغم من أن اعتراضات مجلس القضاء الأعلى ركزت على الحاجة لتنفيذ الالتزام الدستوري الخاص بتحديث عمل محكمة الاستئناف ”لتنظيم استئناف الأحكام الصادرة في الجنايات“ لرفع عبء القضايا المتراكمة عن محكمة النقض، إلا أن تعديلاً أُدخل على نص المادة (١٢) من قانون الإجراءات الجنائية للسماح للدوائر الجنائية بمحكمة النقض بإقامة دعوى جديدة إذا تبينت أن هناك متهمين إضافيين بخلاف من أقيمت الدعوى الأولى ضدهم، وذلك خلال نظرها لموضوع الطعن من المرة الأولى بعد أن كانت مقصورة على الطعن الثاني فقط، وهو ما يضع علامات استفهام حقيقية حول توقيت التعديلات خاصة في ظل ما أثارته التعديلات من خلاف في التطبيق بين الدوائر المختلفة للمحكمة ما استدعى اجتماع الهيئة العامة للمواد الجنائية والمدنية لحسم الخلاف بين عدد من الأحكام المتناقضة لدوائر المحكمة منذ صدور التعديلات[10].
تسهيل شروط الإدراج على قوائم الكيانات الإرهابية .. إهدار لحقوق المتقاضين؟
كذلك فقد أدخل القانون رقم “١١ لسنة ٢٠١٧” عدد من التعديلات غاية في الخطورة والأهمية، حيث جرى تعديل نص الفقرة الثانية من المادة (٣) من قانون “قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين” لتسهيل الإشتراطات المطلوبة من النيابة العامة لإتمام إجراءات الإدراج على قوائم الإرهابيين بإضافة شرط مطاطي وهو “المعلومات الجدية” بجانب “التحقيقات أو المستندات أو التحريات”، وهو ما سيحمل بدوره تعبات غاية في الخطورة على حقوق المتقاضين.
كما استُحدثت مادة (٨ مكرر) بقانون “قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين” بحيث مُنح النائب العام سلطة التحفظ والمنع من التصرف فى الأموال إذا توافرت “معلومات أو دلائل جدية على أنها متحصلة أو مستخدمة فى تمويل نشاط إرهابى”، بدون الحاجة لإدراج الشخص/الجهة على قوائم الإرهاب بشرط “عرض أمر التحفظ والمنع من التصرف على الدائرة المختصة بطلبات الإدراج خلال شهر من صدوره”، ما يؤشر على إمكانية إصدار قرار التحفظ قبل العرض على الدائرة الجنائية المختصة لنظر تأييده أو إلغاؤه.
كذلك، فقد زادت فترة الإدراج المنصوص عليها في المادة (٤) من القانون لتصبح خمسة سنوات بحد أقصى بدلاً من حد الثلاث سنوات في النص الأصلي، كما استحدث النص المُعدل عقوبة جديدة في المادة (٧) من القانون ذاته وهي “حظر ممارسة جميع الأنشطة الأهلية والدعوية تحت أى مسمى” على الأشخاص المدرجين على قائمة الإرهاب لتضاف لقائمة العقوبات الأخرى المنصوص عليها في القانون ك”المنع من السفر والوضع على قوائم الترقب والوصول وسحب جواز السفر وتجميد الأموال”، وهو ما يؤكد على الشكوك المُثارة حول حول التأثيرات المحتملة لهذه التعديلات على ضمانات المحاكمة العادلة والمنصفة وعلى حقوق المتقاضين[11].
تعديل قانون الطوارئ .. تحايل على حكم المحكمة الدستورية العليا؟
أخيراً، فقد أدخل القانون “١٢ لسنة ٢٠١٧” تعديلين على قانون “الطوارئ” بخصوص منح مأمورى الضبط القضائى متى أعلنت حالة الطوارئ سُلطة التحفظ على كل من توافرت فى شأنه ”دلائل على ارتكابه جناية أو جنحة، وعلى ما يحوزه بنفسه أو فى مسكنه … أى مواد خطرة أو متفجرة أو أسلحة أو ذخائر أو أى أدلة أخرى على ارتكاب الجريمة”، بشرط إخطار النيابة العامة خلال ٢٤ ساعة من التحفظ عملاً بملاحظات قسم التشريع بمجلس الدولة[12] للالتزام بالنص الدستوري[13] الذي يشترط صدور أمر قضائي لتقييد حرية الشخص أو التحقق معه وكذا لدخول مسكنه أو تفتيشه.
وفي السياق ذاته، فقد ثار الجدل حول شبهة عدم دستورية النص المُعدل في ضوء حكم سابق للمحكمة الدستورية العليا والذي أبطل البند (١) من المادة (٣) من قانون “الطوارئ” فيما تضمنته من الترخيص بالقبض على الأشخاص والاعتقال وتفتيش الأشخاص والأماكن دون إذن قضائى مسبب، وهو ما سيتحقق بدوره بعد التعديل وإضافة كلمة “التحفظ” بدلاً من كلمتي “الإعتقال والتفتيش” بالنص الأصلي للمادة، حيث أن تغيير اللفظ في هذه الحالة لا يغير من مبدأ “تقييد الحرية” المنصوص عليه دستورياً[14].
بالإضافة لما سبق، فقد جرى إضافة نص جديد برقم “٣ مكرر ج” بإجازة احتجاز “كل من توافر فى شأنه دلائل على خطورته على الأمن العام” -بناءًا على طلب من النيابة العامة لمحاكم أمن الدولة الجزئية طوارئ- لمدة شهراً قابلة للتجديد استثناءًا من قواعد الحبس الاحتياطى المنصوص عليها فى قانون الإجراءات الجنائية، ما يعني عملياً منح هذه المحاكم سلطة استمرار الاحتجاز لأجل غير مسمى[15]، وهو ما يؤكد على المخاوف السابقة من شبهات عدم دستورية هذا التعديل.
تبقى الإشارة واجبة في النهاية إلى أنه وعلى الرغم من ترحيب البعض بمضمون التعديلات سالفة الذكر، إلا أن الحاجة لا تزال ماسّة لإدخال عدد أكبر من التعديلات على نصوص القوانين الجنائية والعقابية إذا كنا بصدد الحديث عن تغيير جذري لبيئة التشريع والتقاضي الجنائي بغرض إصلاح منظومة العدالة الجنائية بشكل عام.
لاشك أن هذه النقاشات ستستدعي بدورها فتح النقاش حول عدد من النقاط الجوهرية ذات الصلة كتعديل قوانين هيئة الشرطة والسجون، بجانب إعادة النظر في صلاحيات مأموري الضبط القضائي (خاصة بعد تعديل نص قانون الطوارئ المُشار إليه أعلاه) وكذا التوسع في أنظمة الصلح والأوامر الجنائية وعودة نظام قاض الإحالة[16]، وذلك لرفع عبء الفصل في القضايا المتراكمة عن النيابة العامة وعن المحاكم.
__________________________
[1] هيئة الإذاعة البريطانية، الرئيس المصري: حادث الكنيسة البطرسية نفذه انتحاري بحزام ناسف، (١٢ ديسمبر ٢٠١٦)، موقع بي بي سي، https://goo.gl/W8mSdd (آخر اطلاع: ١٦ مايو ٢٠١٧)
[2] محمد بصل ومحمد مجدي، تفاصيل مشروع المؤتمر الموسع لتحقيق العدالة الناجزة، (١٤ ديسمبر ٢٠١٦)، بوابة الشروق، https://goo.gl/P4DilI (آخر اطلاع: ١٦ مايو ٢٠١٧)
[3] محمد بصل، تغييرات جذرية في القوانين الجنائية لتسريع المحاكمات، (٢٩ أبريل ٢٠١٧)، بوابة الشروق، https://goo.gl/7YmOZF (آخر اطلاع: ١٦ مايو ٢٠١٧)
[4] محمد بصل، بيان شديد اللهجة من مجلس الدولة ضد «الزند»، (١ فبراير ٢٠١٦)، بوابة الشروق، https://goo.gl/hsX6wS (آخر اطلاع: ١٠ أغسطس ٢٠١٧)
[5] محمد جمعة ومحمد مجدي، قانونيون يرحبون بتعديل إجراءات التقاضى أمام «الجنايات» و«النقض»، (١ مايو ٢٠١٧)، بوابة الشروق، https://goo.gl/pqwfoY، آخر اطلاع: (١٦ مايو ٢٠١٧)
[6] حسام شورى، تعديلات القوانين الجنائية فى 90 يومًا: انتقادات حقوقية ومشكلات فى التطبيق، (٢٧ يوليو ٢٠١٧)، بوابة الشروق، https://goo.gl/bNkAKE، (آخر اطلاع: ١٠ أغسطس ٢٠١٧)
[7] المصدر السابق
[8] محمد بصل، مصادر قضائية: تعديلات القوانين الجنائية صدرت رغم مطالبة «النقض» بإرجائها، (٢٩ أبريل ٢٠١٧)، بوابة الشروق، https://goo.gl/6SaZMN (آخر اطلاع: ١٦ مايو ٢٠١٧)
[9] محمد جمعة ومحمد مجدي، قانونيون يرحبون بتعديل إجراءات التقاضى أمام «الجنايات» و«النقض»
[10] حسام شورى، تعديلات القوانين الجنائية فى 90 يومًا: انتقادات حقوقية ومشكلات فى التطبيق
[11] محمد جمعة، «الشروق» تنشر مذكرة طعن «أبو تريكة» على قرار إدراجه في قائمة الإرهاب، بوابة الشروق، https://goo.gl/to9bBf (آخر اطلاع: ١٠ أغسطس ٢٠١٧)
[12] محمد بصل، «شبهة عدم دستورية» تهدد تعديلات قانون الطوارئ، (٢٧ أبريل ٢٠١٧)، بوابة الشروق، https://goo.gl/4pU5oX (آخر اطلاع: ١٦ مايو ٢٠١٧)
[13] دستور جمهورية مصر العربية، الباب الثالث: الحقوق والحريات والواجبات العامة، المادة ٥٤
[14] المصدر السابق
[15] المصدر السابق
[16] أحمد عويس، مصادر برلمانية: عودة «قاضى الإحالة» باختصاصات مهمة فى تعديلات «الإجراءات الجنائية»، بوابة الشروق، https://goo.gl/yBEcZp (آخر إطلاع ١٠ أغسطس)