استقلال خبراء وزارة العدل: حقٌّ أم عرقلةٌ لسير العدالة؟
يناقش في البرلمان والهيئة العليا للإصلاح التشريعي في الآونة الأخيرة مشروع قانون لاستقلال خبراء وزارة العدل عن الوزارة وإنشاء هيئة قضائية مستقلّة لهم تضمن استقلالهم المادي والإداري وتختصّ بتنظيم جميع المسائل والأمور التي تتعلّق بالخبرة القضائية وعمل الخبراء وتنظيم أمورهم وأوضاعهم في القانون. وبمناسبة هذه المناقشة يعود التساؤل حول كيفية الموازنة بين معايير هذا الاستقلال المادي والإداري للخبراء، والواردة في عدد من المواثيق الدولية، وبين ضمان سير العدالة على الوجه الأمثل من حيث السرعة وضمان مصالح المتقاضين؛ وهي إشكالية نادرًا ما يتم التعاطي معها من قبل الدارسين في حقل دراسات القانون والمجتمع على الرغم من صلتها الوثيقة بالأسئلة الرئيسة المؤسسة لهذا الحقل والخاصة بعلاقة التأثير والتأثر المتبادل بين الممارسات القانونية والسياق الأوسع للعلاقات الاجتماعية وتمثيلاتها الثقافية والسياسية. الخبرة القضائية هي إجراء يستعين به القاضي في القضايا التي تحتاج إلى خبرة فنية بالإضافة إلى خبرة القاضي القانونية. تكون الاستعانة بالخبراء في المحاكم المصرية في القضايا المدنية والتجارية التي يستعين بها القاضي ببعض خبرات الخبراء الفنية كالمحاسبة والهندسة والزراعة وغيرها، أما الخبرة في مجال الطبّ فهي تعهد إلى أطباء متخصّصون في علم الطب الشرعي وتختص بتنظيم أمورهم مصلحة الطب الشرعيّ وتستعين بهم المحكمة في المسائل المتعلقة بالجرائم الجنائية وجرائم التزييف والتزوير. فتكون الاستعانة بالخبراء في المنازعات المدنية والجنائية التي يصعب على القاضي إصدار حكم فيها لاحتياجه إلى خبرة فنية في مجالات معينة بجانب خبرته القانونية لتعلّق المنازعة بأمر فنّي وليس قانونيًّا يحسم من خلال مواد القانون وتشريعاته.
ينظم القانون رقم 96 لسنة 1952 عمل الخبراء أمام الهيئات القضائية وبموجب هذا القانون يعد الخبراء عامليين مدنيين بالدولة خاضعين لوزارة العدل مما يعني أنهم تابعون للسلطة التنفيذية، وقد صدر ذلك القانون منذ أكثر من 60 عامًا ممّا يعني أنه يلزمه الكثير من التعديلات ليواكب التطورات التي طرأت على القضاء منذ تلك الفترة. فيما منح الدستور المصري في مادته رقم 199 الاستقلال لكلّ من الخبراء القضائيين وخبراء الطبّ الشرعي والأعضاء الفنيين بالشهر العقاري وكفلت نص المادة الحماية والضمانات اللازمة لهم لتأدية عملهم على النحو الذي ينظمه القانون. وبالنظر للمعايير الدولية، تنص المادة 36 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والموقعة عليها مصر على ضرورة استقلال الهيئات أو الأشخاص المتخصصين في مكافحة الفساد وعلى أهمية تزويد هؤلاء الأشخاص أو موظفين الهيئات بالتدريب والموارد المالية اللازمة لأداء مهامهم. فبموجب نصّ المادتين ينبغي أن تكون للخبراء هيئة مستقلة تنظم عملهم وأوضاعهم واعتبارهم هيئة قضائية مستقلة تتبع السلطة القضائية عكس الوضع الحالي في اتباع الخبراء للسلطة التنفيذية من خلال مصلحة الخبراء بوزارة العدل. وقد أثارت تلك الإشكالية الجدل عندما رفضت حكومة سويسرا تنفيذ حكم رد الأموال المصرية المهربة عقب ثورة يناير بسبب استناد الأحكام على تقارير الخبراء الذين يعدّون عاملين في الدولة يخضعون لإشراف السلطة التنفيذية وعدم تمتعهم بالاستقلالية القضائية ممّا يفتح الباب للطعن في نزاهتهم ومدى استقلال ونزاهة تقاريرهم عن توجهات الحكومة. ويحتج الخبراء بنصوص تلك المواد في مشروع قانونهم الجديد ويطالبون بإعمال المادة الدستورية حيث إنّ القانون الذي ينظم عملهم حاليًا يعدّ مخالف لنص الدستور ممّا يستلزم إلغاؤه والعمل على صياغة قانون جديد يمنحهم حق الاستقلالية القضائية، خصوصًا في ضوء نص اتفاقية مكافحة الفساد للأمم المتحدة على ضرورة استقلال الهيئات أو الأشخاص الذين من شأنهم التحقيق في قضايا مكافحة الفساد مما يضعف موقف مصر من حيث مدى التزام الدولة بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية الموقعة عليها وتطبيقها في قانونها الوطني. يتمتع الخبراء القضائيون كذلك بصفة الضبطية القضائية ويحق لهم الاطلاع على ملفات القضايا الموكلة إليهم لدراستها وإبداء الرأي فيها. وقد نشأت في هذا السياق أزمة عام 2009 الشهيرة بين الخبراء ووزارة العدل بسبب إصدار الوزارة لقرار يلزم الخبراء بالاطلاع على ملفات القضايا في مكتب سكرتارية المحكمة وعدم السماح لهم بالاحتفاظ بملف القضية ونقل الملف الى مكاتبهم للدراسة والاطلاع مما أدى الى وجود انطباع لدى الخبراء عن مدى ثقة الوزارة في عملهم وفي شخصهم وعن كيفية أداء عملهم في ظل وجود قرار يتعلق بنزاهتهم ويشكك في أمانتهم المتعلقة بفحص ودراسة ملفات القضايا فإذا كانت المحكمة ستستند على تقرير الخبير في إصدار الحكم فيكون الخبير بالأحرى هو أجدر شخص بالاحتفاظ بملفات القضايا. وتعد كثرة القضايا المحالة إلى الخبراء أحد المعوقات التي تعرقل الخبراء من أداء مهامهم حيث قدرت نسبة القضايا التي انتدب فيها خبير بنسبة 80% من إجمالي القضايا المنظورة في المحاكم حسب التقارير الصحفية، وتقضي المحكمة برجحان تقرير الخبير وبناءً عليه تصدر الحكم مما أثار إشكالية مدى اعتماد القضاء على الخبراء وتقاريرهم. فاذا كان الخبراء يصدرون تقارير تعتمدها المحكمة وتقضي بها ويحال اليها نسبة كبيرة من القضايا التي تكون تقاريرهم فيها هي الفيصل فيحق للخبراء وجود هيئة مستقلة لهم تضمن وجود ضمانات حقيقية تساعدهم على العمل على عدد القضايا المنتدبين فيها. وقد ذهبت بعض الآراء إلى التساؤل عن مدى سلطة القاضي وسلطة الخبير في إصدار الأحكام وعن كثرة القضايا الذي يلجأ فيها القاضي إلى انتداب الخبير فهل يكون الانتداب للفصل في موضوع فني في الدعوى يحتاج فيها القاصي إلى الخبرة ليسبب حكمه وتطمئن عقيدته القانونية أم يلجأ القاضي إلى الخبير ليوكل اليه قضايا للفصل فيها حتي يخفّف من مهمته ومسؤولياته في الفصل في القضايا.
أما على الجانب الآخر، فيرى معارضو استقلال الخبراء أنّ الاستقلال كما يقدّمه القانون المقترح سوف يفتح الباب أمام الجهات المعاونة للقضاء كالشهر العقاري والطبّ الشرعي في الاحتذاء بهم وطلب الاستقلال ممّا سيسبب متاعب إضافية على القضاء وإرهاق عملية سير العدالة بشكل سليم، إذ تتحول الجهات التي من شأنها معاونة القضاء في الاستدلال أو التحقيق في القضايا الى جهات قضائية مستقلة بذاتها لا تخضع لسلطة المحكمة أو تلبّي طلباتها كرفض أو تعطيل تنفيذ طلبات المحكمة. كما أنّ دور الخبير، وفقًا لهذه الآراء، يقتصر على معاونة القضاء وليس الفصل في الخصومة أو تسبيب الحكم. كما سيترتب على استقلال الخبراء وإنشاء هيئة قضائية مستقلة لهم، وفقًا لذات الرأي، وجود ميزانية خاصة بهم مما يثير أزمة إضافية خاصة في ظلّ العجز الفادح للموازنة العامة وهو الأمر الذي عقب عليه نادي خبراء وزارة العدل بأنهم قطاع منتج بالأساس. فمن ضمن رسوم التقاضي رسم يسمى "أمانة الخبير" فيمكن للخبراء ما اذا تم انشاء هيئتهم المستقلة ضمان توفير ميزانيتهم الخاصة والمساهمة في ميزانية الدولة عن طريق تحصيل تلك الرسوم. ولكن يصعب ضمان استمرار توافر الميزانية عن طريق رسم "أمانة الخبير" فليس هناك ما يضمن توافر عدد القضايا التي يحتاج فيها القاضي الى ندب الخبير مما يضمن الحفاظ على الميزانية الخاصة بهم. مطالب الخبراء هي مطالب إذا تحققت من شأنها ان تسرع من تحقيق العدالة الناجزة المرجوة في منظومة القضاء المصري، فالغاية من الاستقلال إرساء العدالة وأمام هذه الغاية تبنى الدستور المصري والمواثيق الدولية الضمانات الكافية لتحقيقها، وقد قدم الخبراء من حجج ما يضمن الوصول لضمانات كافية تحقق العدالة وتأكيدا لمبدأ استقلال القضاء واستقلال كل من يعمل به.