دولة الحد الأدنى السلطوية - ملامح أولية للمالية العامة للنظام الجديد
في لحظة وصول الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي لسدة الحكم، حاول أن يسلك طريقًا وسطًا بين مصالح متعارضة في تطبيق إجراءاته التقشفية، وبالأخص فيما يتعلق بالمالية العامة والتي كانت ولا زالت أداة الاقتصاد السياسي الرئيسية في يد النظم السلطوية التي تعاقبت على مصر منذ يوليو 1952. فمثلما بدأ بتخفيض الدعم المقدم للطاقة ( الوقود، الكهرباء) مع إدخال تغيير جوهري في منظومة دعم السلع التموينية، تم اتخاذ بعض الإجراءات الأخرى التي تمس البيروقراطية العليا كتطبيق الحد الأقصى للأجور أو تمس بشرائح المهنيين العليا وبعض شرائح الرأسمالية كفرض ضريبة إضافية مؤقتة قدرها 5% لمن يزيد دخلهم عن مليون جنيه ليصبح معدل الضريبة 30% وكذلك تم فرض ضريبة قدرها 10% على الأرباح الرأسمالية الناتجة عن التعامل في الأوراق المالية بالبورصة.
ولكن لم يمر الكثير من الوقت حتى حتى فرض كل من الخلل الفادح في علاقات القوى بين تلك المصالح المتناقضة، وكذلك حاجة المجموعة الحاكمة الجديدة لتثبيت دعائم سلطتها في ظل ظرف سياسي مضطرب، منطقهما على إيفاع ووجهة تلك الإجراءات. فسرعان ما جرى التراجع عن معظم تلك الإجراءات التي تمس بالأساس جماعات المصالح المتنفذة في الدولة المصرية سواء البيروقراطية الكبيرة أو شرائح الرأسمالية والمهنيين المذكورة، فصدرت العديد من الأحكام القضائية تستثني عددًا من الجهات من تطبيق الحد الأقصى للأجور-والذي لا يعرف حتى الآن إن كان مطبقًا فعليًا أم لا- كما تم تعطيل العمل بضريبة الأرباح الرأسمالية لمدة عامين، وفي نفس الوقت لم يتم العودة لضريبة الدمغة التي كانت تطبق على المعاملات داخل البورصة قبل أن يتم استبدالها بضريبة الأرباح الرأسمالية، وكذلك تم إلغاء الضريبة الإضافية المؤقتة التي كان قد تم استحداثها بل وتم تخفيض الحد الأقصى للضريبة من 25% ليصبح 22.5%. جرى ذلك كله على الرغم من أن ضريبة ال 5% الاستثنائية كان من المفترض أن تطبق لمدة 3 سنوات فقط، كما أن ضريبة الأرباح الرأسمالية هي ضريبة هزيلة (10%) وتم التفاوض بشأنها كثيرا مع المتعاملين في البورصة ورضخت الحكومة أثناء ذلك التفاوض وتم إعفاء توزيعات الأسهم المجانية من الضريبة.
بالتوازي مع ذلك، أحجمت المجموعة الحاكمة الجديدة عن تطبيق الحد الأقصى للأجور على الثلاثة قوى الأساسية التي يستند إليها مشروعها في الحكم وهم القضاء والشرطة والجيش بالإضافة إلى البيروقراطية المدنية الكبيرة. و ما يعزز وجهة النظر تلك هو أن الحد الأدنى للأجور تم تطبيقه في نفس تلك الفترة ثم عادت الشكوى الرسمية من ارتفاع فاتورة الأجور وهو ما يدلل على أن الوافدين الجدد كانوا على قدر من التسرع بعض الشيء خلال اتخاذ مثل تلك الإجراءات التي رافقت وصول السيسي لكرسي الرئاسة، وذلك مع الأخذ في الاعتبار الشعبية الكبيرة التي تمتع بها السيسي خلال تلك الفترة وحاجته لانجاز سريع للوفاء ببعض تلك التطلعات الشعبية. وكذلك الحال في التراجع عن التعديلات الضريبية والذي يدل على رغبة في احتواء تململ شرائح الرأسمالية العليا في ظل الحاجة الماسة إليهم مع تناقص الدعم المالي الخارجي. هذه التطورات تمنحنا مؤشرًا على وجهة العقد الاجتماعي الجديد الذي يسعى نظام ما بعد يوليو 2013 لتأسيسه: بسط قبضة حديدية على الأمور في البلاد ولكن دون تقديم الحد الأدنى من المنح والمزايا الاجتماعية والتي تشمل الدعم العيني بشكل أساسي ولحدا ما التوظيف الحكومي لعموم السكان. فالعقد الاجتماعي الخاص بدولة يوليو منذ تأسيسها كان يقوم على تلك المبادلة بين تخلي عموم السكان عن حقوقهم المدنية والسياسية في مقابل التمتع بمنح ومزايا اجتماعية كالدعم العيني والتوظيف الحكومي والسكن الرخيص.
وهذا المسار يبدو محفوفًا بالمخاطر أخذًا في الاعتبار تآكل الإيرادات الريعية التي سمحت بتمرير الإجراءات التقشفية التي طبقها الرئيس السيسي في العام 2014، وهي الإجراءات التي أتت في ظل توافر دعم مادي سخي من دول الخليج وبالتالي لم يكن النظام في مأزق مالي خطير. ما هو واضح أنه ليس في الأفق القريب أية إيرادات ريعية قد تأتي من الخارج لإنقاذ النظام المصري من مأزقه الحاد الذي يتزايد فيه حضور سياسة العصا من خلال المزيد من القمع والاعتماد على الأجهزة الأمنية في قمع أية احتجاجات مستقبلية، مع تراجع دور الجزرة التي تمثلت في المنح والمزايا الاجتماعية التي اعتاد النظام منحها مقابل التأييد السلبي . كما أن الواضح للعيان هو أنه ليس هناك أي تحول قد يطرأ على بنية الاقتصاد المصري ليتحول من كونه اقتصاد ريعي إلى اقتصاد قائم أكثر على الإنتاج. . ولا يتبقى في هذه الحالة إلا التوجه للاقتراض من مؤسسات التمويل الدولية بمشروطية تأتي على المزيد من مزايا العقد الاجتماعي القديم كما نشهد حاليًا وهو ما يعني مزيدًا من التأزيم للعقد الاجتماعي الجديد في مهده.