نهاية إجماع واشنطن واستمرار ازدواجية المعايير - التنمية بين عالمين
الأحد ١١ يونيو في بداية العام الحالي، صرح رئيس بعثة صندوق النقد الدولي لمصر، كريس جارفيس، أن سعر صرف الجنيه قد انخفض أكثر مما توقعه الصندوق. يدعونا هذا التصريح للتفكير في مصير حزمة السياسات الاقتصادية التي راجت مع بداية تسعينيات القرن الماضي وسميت "بإجماع واشنطن". فبعد الفشل الذي منيت به هذه السياسات، وبالأخص في دول أمريكا اللاتينية التي كانت حقل الاختبار لقائمة السياسات التي صكها John Williamson ، خرج علينا ويليامسون ليقول بأن تلك القائمة من السياسات تم تفسيرها بشكل خاطئ من قبل المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي التي استخدمت المصطلح كمرادف للنيوليبرالية وآليات السوق الراديكالية، وأضاف أيضا أن ذلك لم يكن ما كان يعنيه وما لم يكن في نيته عندما وضع قائمة السياسات العشرة التي كان من بينها الخصخصة، وتحرير التجارة وخفض الإنفاق العام وغيرها من الإجراءات. ما غاب عن السيد Williamson أن الأمر ليس له أية علاقة بالنوايا، فكما يقول William easterly في كتابه عن سبب فشل الجهود الغربية في مساعدة الدول النامية عن طريق مساعدات التنمية التي بلغت مليارات الدولارات، لا أحد يشكك في صدق نوايا هؤلاء الذين يتحدثون عن التنمية والنمو الاقتصادي ورغبتهم في زوال الفقر من العالم. ولكن القضية الرئيسية هنا هو من يتحمل نتيجة فشل تلك السياسات التي يقترحها هؤلاء؟ الإجابة هي لا أحد. فلن يتحمل موفد صندوق النقد لمصر مسئولية ذلك الخطأ الذي تحدث عنه كما لم يتحمل جون ويليامسون ومعه ترسانة الاقتصاديين والخبراء في الصندوق حجم الضرر والألم الذي سببته ولا زالت تسببه سياسات إجماع واشنطن لملايين البشر حول العالم، تماما كما لا يحاسب المسئولين عن مليارات المساعدات التي لم تحقق الغرض المرجو منها من تخفيض الفقر فيما يسمى بالعالم النامي بل أن ما حدث بالفعل هو زيادة حدة ذلك الفقر. تماما كما لا يحاسب ذلك الطيار الذي يلقي مخزونه من القنابل بالخطأ على رؤوس بعض المدنيين في سوريا أو العراق أو أفغانستان وتكون الإجابة الحاضرة "لقد حصلنا على معلومات خاطئة" تماما كما قال السيد جارفيس أن الجنيه المصري انخفض بأكثر مما توقعوا. المشكلة في حقيقة الأمر ليست فقط في ارتكاب الخطأ ولكن في الاستمرار فيه، فبعد أن ثبت فشل ما سمي بإجماع واشنطن، خرجت المؤسسات المالية الدولية بمبررات من نوعية أن هناك بعض السياسات الأخرى التي لا بد من تطبيقها أولا حتى تنجح القائمة الأساسية من سياسات إجماع واشنطن. فظهرت قائمة أخرى من السياسات شملت دعم شبكات الأمان الاجتماعي، الإصلاح القانوني والسياسي وعدد أخر من السياسات بالإضافة إلى قائمة السياسات العشر الأساسية. المشكلة الأخرى هنا أن المؤسسات المالية الدولية اعتبرت سياسات إجماع واشنطن بمثابة الروشتة الصالحة لعلاج الأزمات التي تعاني منها اقتصادات البلدان النامية، ثم اقترحت روشتة جديدة بعد فشل الروشتة الأولى. في كلتا الحالتين لم يأخذ أحد رأي هؤلاء الذين من المفترض أنهم يعانون من المرض. بل تم فرض التشخيص والعلاج عليهم من قبل أشخاص قد لا يكونوا زاروا بلدانهم من قبل على الإطلاق. يشير Dani Rodrik أنه لم تترك أبدا المساحة لما تسمى بالبلدان النامية لوضع تصورها الخاص بها والمتوافق مع ظروفها الخاصة. يشير Rordik أيضا أن الغرب الذي تمكن من تقوية قاعدته الصناعية في البداية خلف سياسات حمائية يمنع على الآخرين فعلالشئ نفسه نفس . يشير Drahos إلى نفس الأمر فيما يتعلق بحقوق الملكية الفكرية، فالغرب الذي استفاد في بداية إنشاء قاعدته الصناعية من قواعد مخففة فيما يتعلق بحقوق الملكية الفكرية يطلب حاليا من دول العالم الثالث أن تلتزم بقواعد حقوق ملكية فكرية صارمة قد تؤدي إلى عدم توفر الدواء لملايين الأشخاص حول العالم . وفي نفس السياق، يشير Rodrik إلى أن الدول الغربية الكبرى اعتبرت أن ضعف الإجراءات الاحترازية والرقابية في النظم البنكية وكذلك غياب معايير حوكمة الشركات كانت من الأسباب الرئيسية التي أدت للأزمة المالية التي ضربت دول شرق آسيا في عام 1997، ولكن ماذا عن الأزمة المالية العالمية التي حدثت في العام 2007، ألم تحدث لنفس الأسباب التي ساقها الغرب للوم تلك الدول؟ المثير للدهشة هنا هو أن الأزمة الآسيوية حدثت فعليا بسبب اتباع تلك الدول لتوصيات المؤسسات المالية الدولية بفتح اقتصاداتها بوتيرة سريعة أدت لذلك الانهيار ثم جاءت الروشتة لعلاج الأزمة في صورة مزيد من الخفض في الإنفاق الحكومي مع أن الغرب نفسه تعامل مع الأزمة المالية في العام 2007 بمزيد من الإنفاق الحكومي. إنها نفس الازدواجية في المعايير: غير مسموح لكم بفعل الأمر الذي نفعله نحن. يقول Joseph stiglitz أن كوريا الجنوبية لو كانت ظلت حبيسة نظرية الميزة التنافسية "comparative advantage" التي روج، ولايزال يروج لها العديد من الاقتصاديين القابعين في مقرات المؤسسات المالية الدولية، كانت لتنتج أرز فقط حتى يومنا هذا. إذن هي المبادرة التي أقدمت عليها كوريا الجنوبية وغيرها من الدول حتى استطاعت بناء ميزتها التنافسية الخاصة بها، لأن الميزة التنافسية ليست وراثية بل هي مكتسبة من التجربة. الغرب لم يولد متقدم صناعيًا وتكنولوجيا، المسالة برمتهاأإنه تعلم من خلال التجربة. إذن المسألة الرئيسية هنا كما يشير Rordik أنه يجب أن تتمتع بلدان ما يسمى بالعالم الثالث أو النامي بالحرية التي تسمح لهم بإيجاد الاستراتيجيات الكفيلة بتنمية بلدانهم بعيدا عن الحلول المقولبة ""one size fits all التي تناسب جميع الدول وجميع المشكلات، تلك الحلول التي تؤدي في حقيقة الأمر لمزيد من الأزمات ومزيد من الفقر واتساع الهوة بين البلدان وفي داخلها. رئيس بعثة صندوق النقد: مصر ستفي على الأرجح بالأهداف المطلوبة لصرف الشريحة الثانية من القرض، رويترز، 18 يناير 2017 http://ara.reuters.com/article/businessNews/idARAKBN15229K See: Williamson, J. (2000). What should the World Bank think about the Washington consensus? The World Bank Research Observer, 15(2), 251-264 See: Easterly, W. (2006). The white man's burden: Why the west's efforts to aid the rest have done so much ill and so little good. Oxford; New York; Oxford University Press. See: Rodrik,D.(2001). The Global governance of trade as if development really matters. UNDP. See: Drahos, P. (2005). An Alternative Framework for the Global regulation of intellectual property rights. CGKD, working paper no.1. See: Serra, N., & Stiglitz, J. E. (2008). The Washington consensus reconsidered: Towards a new global governance. Oxford: Oxford University Press.