الدعوى الدستورية الفردية - دراسة مقارنة

المستشار د. أحمد جوهر

الاثنين 1 يوليو 2024

* الكاتب: المستشار  د. أحمد عيسى جوهر، رئيس النيابة بهيئة النيابة الإدارية - حاصل على درجة الدكتوراه في القانون الدستوري من كلية الحقوق بجامعة المنصورة

** تنشر "منشورات قانونية" هذا المقال بإذن خاص من الكاتب

   

     لم توضع الدساتير يوما لتصبح مجرد وثيقة تاريخية في حياة أي أمة، ولا توضع أيضا لتعبر عن أمنيات الأفراد أو تطلعات الحكام للمستقبل، بل توضع من أجل صياغة العقد الاجتماعي القائم بينهم، في نص مكتوب، يلزم السلطات العامة - التي ينشئها - بأحكامه، نزولا على الشرعية الدستورية، التي أسس لها وصاغ أركانها، وليبين الحقوق والحريات التي يتمتع بها الأفراد عموما، وتلك التي يتمتعون بها في مواجهة السلطات؛ حتى تكون على بينة من أمرها.

     ومتى كان الأمر كذلك، فإنه يتعين وضع هذه الوثيقة موضع النفاذ، قولا وعملا؛ حتى تستقيم مسيرة تنفيذ هذا العقد، ويبقى الأفراد مطمئنين لمن فوضوهم السلطة، فتسير عجلة التنمية باطراد وانتظام، وتزدهر حياة كل فرد، ومن ثم تنطلق الأمة ناحية المستقبل بخطى ثابتة.

     وعلى الجانب الآخر، إن لم يكفل لهذه الوثيقة مقومات النفاذ، وضمانات الوفاء بالالتزامات الواردة بها، ويأتي في مقدمتها ما تضمنته من حقوق وحريات؛ احتراما للشرعية الدستورية التي رسمت حدودها؛ تضحي مجرد حبر على ورق، وتعد كالإنسان فاقد الحياة؛ حيث تكون حينئذ عرضة للانتهاك أو الإهمال؛ مما يهدر تضحيات الشعوب واستحقاقاتهم التاريخية.

     ولم يَعُدْ خافيًا أنَّ احترامَ حقوقِ الإنسان بات اليوم أحدَ المُعتقداتِ الرَّئيسةِ في العقل الجمعيِّ لأيِّ دولةٍ مُتحضِّرةٍ، بل في العقل الجمعيِّ الدَّوليِّ - إنْ جاز الاصطلاحُ، لو قُلْنا به تجاوُزًا؛ نظرًا لما يشهدُه العالمُ حاليًّا من تصرُّفاتٍ غير مسئولٍة بعيدةٍ تمامًا عن الفطرة الإنسانيَّة -، بل إنه أصبح أحدَ المُقوِّماتِ الأساسيَّةِ لقيامِ الدَّولةِ القانونيَّةِ، وعليها يتمُّ البناءُ لتحقيق التَّنميةِ الشَّاملة في أيِّ مُجتمعٍ، باعتبار أنَّ سيادةَ القانونِ واحترامَ حقوقِ الإنسانِ هما الطَّريق لذلك، كما عرفته الدُّولُ الحديثةُ.

     ومن هنا كانت - ولا تزالُ - المُحافظةُ على هذه الوثيقةِ تنبض؛ شاغل كلِّ سُلطةٍ رشيدةٍ، واعيةٍ، مُدركةٍ أهميَّةَ صونِ العقدِ الاجتماعيِّ القائم بينها وبين أفرادِ المُجتمعِ.

     وبالبناءِ على ما تَقدَّم، تتكفَّل الدَّساتيرُ عمومًا بالنَّصِّ على الضَّماناتِ التي تؤمِّنُ الحقوقَ والحُرِّيَّاتِ التي أرادتْها للأفراد، وتكفلُ لها النَّفاذَ، ويأتي في مُقدِّمتها النَّصُّ عليها في صُلبِها، دون أنْ يُفهم ذلك بأنه تحديدٌ (حصريٌّ) للحقوقِ التي يتمتَّعون بها، باعتبارِ أنه بات مُستقرًّا أنَّ هناك من الحقوق ما يتمتَّعُ به الإنسانُ بوصفهِ إنسانًا، ولو لم تُدْرِجْها الدَّساتيرُ في أصلابها، يُطلَق عليها اصطلاحُ "الحقوق الطَّبيعيَّة".

     ولكنْ لم يكُنْ يومًا ما ذلك كافيًا؛ بسبب طبيعةِ الأشخاصِ القائمين بأعباء السُّلطة، في أيِّ مُجتمعٍ -مُتحضِّرًا كان أم غير ذلك -، إذ يُحاولون دائمًا التَّحلُّلَ من قيودِ والتزاماتِ العقد الاجتماعيِّ تُجاه الأفراد، بحججٍ وذرائعَ - صدقَتْ أم كذبَتْ -؛ ممَّا يشكِّلُ تهديدًا للحقوق والحُرِّيَّات التي كفلتْها الدَّساتيرُ لهم؛ فتأتي أهمِّيَّةُ الضَّماناتِ الدُّستوريَّةِ للحقوق والحُرِّيَّات، ومن هنا تزدادُ أهمِّيَّةُ الوسائلِ والآليَّاتِ التي تكفلُها الدَّساتيرُ لفرض احترامِ الشَّرعيَّةِ الدُّستوريَّةِ التي أسَّستْ لها على كافَّةِ السُّلطات، وتضمَنُ النَّفاذَ الفعليَّ للحقوقِ والحُرِّيَّاتِ على أرض الواقع؛ فهي جوهرُ الوثيقةِ الدُّستوريَّةِ.

     ولعلَّ الحمايةَ القضائيَّةَ (الدُّستوريَّة)؛ تأتي في مُقدِّمةِ هذه الوسائل؛ كونها أسلمَ الطُّرقِ لمُواجهةِ السُّلطاتِ العامَّةِ، بل أهمَّها على الإطلاق، انطلاقًا من أنَّ السُّلطةَ القضائيَّةَ - بوجهٍ عامٍّ - هي أدنى السُّلطات إلى الإصلاح، كما عبَّر عن ذلك الفقيهُ الكبيرُ الدُّكتور/ عبد الرزَّاق السنهوري (رحمه الله).

أولًا: موضوعُ الدِّراسةِ:

     انبثقت فكرةُ موضوعِ الرِّسالةِ من الأهمِّيَّةِ التي حازتْها مسألةُ وضعِ نصوصِ الدُّستورِ وأحكامه موضِعَ التَّنفيذِ والاحترمِ قولًا وعملًا، آخذين في الاعتبارِ - إلى جانبِ ذلك - قوَّةَ وفاعليَّةَ الحمايةِ القضائيَّةِ للدُّستور في أداءِ تلك المهمَّة؛ باعتبارها أكثرَ الوسائلِ فاعليَّةً في فرضِ احترامهِ على الجميع.

     وتتجسَّد الحمايةُ القضائيَّةُ للدُّستور في الرَّقابةِ القضائيَّةِ على الدُّستوريَّة، ونقول بالرَّقابةِ القضائيَّةِ على الدُّستوريَّةِ دون إقرانِها بالقوانين؛ حتى يكون الاصطلاحُ شاملًا لأعمالِ السُّلطاتِ العامَّةِ الثَّلاث: التَّشريعيَّةِ أصلًا أو استثناءً (القوانين واللَّوائح)، والتَّنفيذيَّةِ (القرارات الإداريَّة)، والقضائيَّةِ (الأحكام)، تلك الرَّقابةُ التي تتولَّاها المحاكمُ الدُّستوريَّةُ كقاعدةٍ عامَّةٍ في مُختلفِ الأنظمةِ الدُّستوريَّةِ والقانونيَّة، منذ مَولدِها في الولاياتِ المُتَّحِدةِ الأمريكيَّةِ، على يدِ القاضي مارشال رئيسِ المحكمةِ العُلْيا الاتِّحاديَّة، في قضيَّةِ ماربيري ضدَّ ماديسون عام 1803.

     بَيْدَ أنَّ الرَّقابةَ الدُّستوريَّةَ عمومًا قد تعدَّدت أشكالُها، وتباينَتْ صورُها من دولةٍ لأُخرى، بل في الدَّولةِ الواحدة من مرحلةٍ لأُخرى، وكانت غايةُ كلِّ دولةٍ في ذلك هي كيف تَحمِي شرعيَّتَها الدُّستوريَّة، وتصُونُ الحقوقَ والحُرِّيَّاتِ التي كفلتْها الدَّساتيرُ لأفرادِها، جاء أنجعَها وأكثرَها شهرةً لدى كثيرٍ من الأنظمةِ المُقارنة؛ الشَّكلُ الذي يضمَنُ للأفرادِ حقَّهم في الوصولِ المُباشرِ للقضاءِ الدُّستوريِّ من أجل الانتصافِ في مُواجهةِ السُّلطاتِ العامَّةِ. على أنه لا يقِفُ هذا المسعى أو الشَّكلُ عند حدِّ حمايةِ الحقوقِ الدُّستوريَّةِ فحسْب، بل يتجاوز ذلك - بحسب كلِّ دولةٍ وما وصلَتْ إليه من تقدُّمٍ على كلِّ المستويات - إلى حمايةِ الشَّرعيَّةِ الدُّستوريَّةِ في ذاتها، وإنْ كنَّا نرى أنَّ حمايةَ الحقوقِ الدُّستوريَّةِ هُوَ قلبُ الشَّرعيَّةِ الدُّستوريَّةِ ورُكنُها الرَّكينُ.

     وفيما تقدَّمَ؛ يتجسَّد موضوعُ الرِّسالةِ الذي يدور حول الدَّعوى الدُّستوريَّةِ الفرديَّةِ؛ وهي طريقُ الأفرادِ للوصولِ للعدالةِ الدُّستوريَّةِ انتصافًا من أعمال السُّلطاتِ العامَّةِ الثلاث: التَّشريعيَّةِ والتَّنفيذيَّةِ والقضائيَّةِ، حالما تحِيدُ أيُّها عن جادَّةِ الشَّرعيَّةِ الدُّستوريَّةِ أو تنتهك أيًّا من الحقوقِ الدُّستوريَّةِ.

     تلك الآليَّةُ التي تسمحُ للأفرادِ بمُقاضاةِ أعمالِ السُّلطاتِ الثلاث أمام جهةِ الرَّقابةِ على الدُّستوريَّة، بصورةٍ مُباشرةٍ؛ لفحص مدى شرعيَّة العملِ الصَّادرِ عنها من النَّاحيةِ الدُّستوريَّةِ، تأتي على خلاف طُرقِ تحريكِ الرَّقابةِ الدُّستوريَّةِ التي يعرفُها نظامنُا القضائيُّ الدُّستوريُّ (الدَّفع، والإحالة)، إذ تفترض الأخيرةُ وجودَ نزاعٍ قضائيٍّ حتى يُمكِنَ تحريكُها، فضلًا عن أنَّ الرَّقابةَ التي تُحرِّكها تأتي مقصورةً على القوانين واللَّوائح دون أعمالِ باقي السُّلطاتِ الأُخرى، رغم أنَّها تتولَّى تسييرَ جوانبَ مهمَّةٍ للغايةِ في حياتِهم (التَّنفيذ والقضاء) لا تقلُّ أهمِّيَّةً عن التَّشريع مهمَّة السُّلطةِ التَّشريعيَّةِ، في حين أنَّ هذه الآليَّةَ لا تفترضُ ذلك، هي فقط تتطلَّب وجودَ انتهاكٍ للشَّرعيَّةِ الدُّستوريَّة أو مساسٍ بالحقوقِ الدُّستوريَّةِ التي كفَلَها الدُّستور، استنفدتْ حِيالَه سُبلَ الانتصافِ المُتاحة، ورغم ذلك لا يزال قائمًا، ولا شكَّ أنه وضْعٌ تأباه الشَّرعيَّةُ الدُّستوريَّةُ، ويتناقضُ مع الدَّولةِ القانونيَّةِ، ويُشكِّل خروجًا على مبدأ سُموِّ الدُّستور، فمن رَحِمِه خرجت السُّلطاتُ الثَّلاث، ومن ثمَّ يجِبُ ألا يُستثنى منها واحدةٌ في الخضوعِ لرقابةِ الدُّستوريَّة.

     وقد وَجَدْنا هذه الآليَّةَ مُستقرَّةً في أنظمةٍ مُقارنةٍ عديدةٍ، في أوروبا وأمريكا اللَّاتينيَّة، وغيرها مثل: ألمانيا وإسبانيا والنِّمسا وبلجيكا والمجر والمكسيك وأوكرانيا وروسيا وتركيا ... إلخ، حسبما سنطالع على مدى الرِّسالة، وبأشكالٍ مُتنوِّعةٍ تَضِيقُ وتتَّسعُ فيما يخضع إليها أو يكون محلًّا لها، وبعضها مرنٌ وآخرُ جامدٌ في شروطِ قبولها، كلُّ نظامٍ بحسَبِ الظُّروفِ السِّياسيَّةِ والاقتصاديَّةِ والاجتماعيَّةِ، بل تكشف لنا أنَّ جذورَها امتدَّتْ إلى عام 1841 عندما أراد نوَّابُ المُؤتمرِ الوطنيِّ التَّأسيسيِّ الأول في المكسيك ضمانَ الانتصافِ القضائيِّ للحقوق والحُرِّيَّات الدُّستوريَّة، أمام محكمةِ عدلٍ عُلْيا دعَوْا إلى تشكيلِها، فوضَعُوا النَّواةَ الأُولى للدَّعوى محلِّ الدِّراسةِ، وأسْمَوْها "دعوى ضمانةِ الحقوق" (Juicio de Amparo).

     على أنه كان أوَّلُ دستورٍ في أوروبا ينصُّ صراحةً على هذه الدَّعوى هو الدُّستورَ الألمانيَّ الصَّادر عام 1949، وتناولها تحت اسم الشَّكوى الدُّستوريَّةِ (Constitutional Complaint)، وقد أتاح استعمالَها ضدَّ أعمالِ السُّلطاتِ العامَّةِ كافَّة (المادَّة 93/ 1/ 4أ) إذا ما انتُهِكَت أحدُ الحقوقِ الأساسيَّة، بل إنَّ قانونَ المحكمةِ الدُّستوريَّةِ الاتِّحاديَّة الصَّادر عام 1951، أتاح تقديمَها لردعِ حالةِ الامتناعِ التَّشريعيِّ، وفي تفصيلاتِ هذه الآليَّةِ وجوانبِها المُختلفةِ، يدور موضوعُ الرِّسالةِ.

ثانيًا: أهمِّيَّة الدِّراسة:

     لعلَّ أهمِّيَّة الموضوع تتضحُ مع استبيان الأهمِّيَّة التي تحوزها الدَّعوى محلُّ الدِّراسة في عدة نواحٍ، أولُها: أنَّ الدَّعوى تضمَنُ للدُّستور البقاءَ حيًّا نابضًا؛ بكفالتها النَّفاذَ الفعليَّ لنصوصهِ وأحكامهِ، وهو الوثيقةُ الأهمُّ في حياة أيِّ أمَّةٍ، وبذلك تحفَظُ للشَّرعيَّة الدُّستوريَّة هيْبَتَها، وثانيها: تؤمِّن الحقوقَ الدُّستوريَّةَ في مُواجهةِ سُلطاتِ الدَّولة؛ باستدعاءِ أعلى محكمةٍ في البلاد لفحْصِ أعمالِها؛ حالما طالها ادِّعاءاتٌ بانتهاكِ الحقوقِ الدُّستوريَّة، وثالثُها: تُسهم في دعمِ العمليَّةِ الدِّيمقراطيَّةِ في المُجتمع، من خلال تقويةِ المركزِ القانونيِّ للأفرادِ في مُواجهةِ السُّلطَاتِ العامَّة، إذ يكون بِوُسعِهم مُقاضاتُها أمام القضاءِ الدُّستوريِّ، وذلك يجعلُ الأفرادَ يشعرون بقوَّةِ دورهم في حماية الوثيقةِ الدُّستوريَّةِ، لا سيَّما مع انطفاء بريقِ الدِّيمقراطيَّةِ التَّمثيليَّة (النِّيابيَّة) في أعتى مَواقِعِها (فرنسا وحركة السُّترات الصَّفراء مؤشِّرًا) ورابعُها: تُسهم أيضًا في تفسيرِ الدُّستورِ وإيضاح معانيهِ وتِبيان مقاصدِه، وذلك في كلِّ مرَّةٍ يَحملُه الأفرادُ مُتوجِّهين به إلى جهةِ الرَّقابةِ على الدُّستوريَّةِ بواسطةِ هذه الدَّعوى؛ إذ تتيح للقضاء الدُّستوريِّ هذا الدَّورَ المُهمَّ؛ نظرًا لما تكونُ عليه عباراتُ وألفاظُ الوثيقةِ الدُّستوريَّةِ من وسعٍ وغموضٍ أحيانًا، لا سيَّما في نُظم القضاءِ الدُّستوريِّ التي لا تسندُ إليه هذه المهمَّة، بل حتى لو أُسندت إليه، يَبقى التَّفسيرُ بمُناسبة تلك الدَّعوى هو الأقربَ للواقعِ؛ كونه يأتي في إطارِ مُنازعةٍ فعليَّةٍ تُثيرها هذه الدَّعوى.

     وفي هذا الصَّدد، نَذكُر أنَّ أحدَ رؤساءِ المحكمة الدُّستوريَّةِ السَّابقين في أمريكا الوسطى، قال بأنَّ القضاءَ الدُّستوريَّ بالنِّسبةِ للدُّستورِ كالرَّبيع للزُّهور؛ تعبيرًا منه عن الدَّورِ الذي يلعبُه القضاءُ الدُّستوريُّ في تفسيرِ الدُّستورِ، واستبيان أحكامهِ، وإعلان القيمِ الدُّستوريَّةِ التي تَحويها نصوصُه، فضلًا عن حمايتهِ الشَّرعيَّةِ الدُّستوريَّة، وصون الحقوقِ والحُرِّيَّاتِ التي هي جزءٌ منها([1]).

     وتأتي أهمِّيَّةُ الموضوعِ كذلك، انطلاقًا من الرَّغبةِ في تقديم دراسةٍ لأهمِّ وسائلِ الانتصافِ القضائيِّ الدُّستوريِّ وأكثرِها فاعليَّةً في النُّظم المُقارنة، للمُشرِّع المصريِّ الدُّستوريِّ والعاديِّ، ألَا وهي الدَّعوى الدُّستوريَّةُ الفرديَّةُ، طالما باتت النَّوايا جادَّةً في تعزيز حمايةِ الحقوقِ والحُرِّيَّات التي يكفلُها الدُّستورُ للأفراد.

     تتَّضحُ أيضًا أهمِّيَّةُ الموضوع، في أنَّنا نُقدِّم وسيلةً أو آليَّةً من شأنها الإسهامُ في الحفاظِ على توازُنِ العقد الاجتماعيِّ إذا ما أصابه أيُّ خللٍ من جانبِ السُّلطاتِ العامَّة، لا سيَّما ونحن نعيشُ تحوُّلاتٍ سياسيَّةً واقتصاديَّةً واجتماعيَّةً وثقافيَّةً عميقةً بدأَتْ مع إرهاصاتِ الجمهوريَّةِ الثانية، وتغايرًا تمامًا لما عاصرتْه الجمهوريَّةُ الأُولى في أعقابِ ثورة 23 يوليو عام 1952؛ إذ إنَّ التَّحوُّلَ لاقتصاديَّاتِ السُّوق، وإطلاق مبادئِ الحُرِّيَّةِ الاقتصاديَّة، يُنبئ بصياغةٍ جديدةٍ لهذا العقد؛ لازَمَها حتمًا تَوسِعةُ دائرةِ إشراكِ المُواطنين في الأمورِ العامَّةِ، وتعزيز الحمايةِ الدُّستوريَّةِ لحقوقهم وحُرِّيَّاتهم، ولن يتأتَّى ذلك على أرضِ الواقعِ إلا من خلال أن تُكفلَ لهم وسائلُ فرضِ الشَّرعيَّةِ الدُّستوريَّةِ على السُّلطاتِ العامَّةِ، واحترام حقوقِهم وحُرِّيَّاتهم التي كفَلَها لهم الدُّستور، نزولًا على ذلك المبدأ الدُّستوريِّ القائلِ بتلازُمِ المسئوليَّةِ مع السُّلطة، والذي نَصَّت عليه المادَّةُ الخامسةُ من دستور 2014 (المُعدَّل)([2])، ولعلَّ ذلك كافٍ لدراسةِ الوسيلةِ الأكثر فاعليَّةً في هذا الصَّدد.

     وفضلًا عمَّا تقدَّم، فإنَّ هذه الدِّراسةَ من شأنها طرحُ الفكرةِ التي تدور حولَها على بساطِ البحثِ العلميِّ، مُحاولةً منَّا للوقوف على جوانبِها المُختلفةِ، عسى أنْ يأخذَ بها المُشرِّعُ المصريُّ يومًا ما؛ اقتداءً في ذلك بما درجَتْ عليه النُّظُمُ المُقارنةُ من المزجِ بين آليَّاتِ الحمايةِ التي تكفلُها لصون دساتيرِها وحماية الحقوقِ التي كفلتْها للأفراد؛ رغبةً منها في تلافي أسبابِ الصِّراع وعدمِ الاستقرارِ التي عصفَتْ يومًا ما بدُولِها، وسعيًا منها لبلوغِ دولةِ القانون التي تُحترمُ فيها الشَّرعيَّةُ الدُّستوريَّةُ بكافَّةِ مضامينها.

     وأخيرًا، نُلقي الضَّوءَ بتناوُلِ هذا الموضوع، على وسيلةٍ فعَّالةٍ ترسَّختْ لدى نُظمِ القضاءِ الدُّستوريِّ المُقارن، في دولٍ امتدَّتْ مسيرتُها نحو تعزيزِ الحمايةِ المرجوَّةِ لحقوق الإنسان؛ إيمانًا منها بأهمِّيَّةِ ذلك للحفاظِ على توازُنِ العقد الاجتماعيِّ.

     ولعلَّنا نأخذُ في الحسبان أنه لا توجدُ دراسةٌ آنيَّةٌ تتناولُ موضوعَ حمايةِ حقوق الإنسان إلا وتطلب المزيدَ من الحمايةِ القضائيَّةِ لها؛ فتأتي هذه الدَّعوى لتُوفِّرَ هذه الحمايةَ بفاعليَّةٍ واقعًا وعملًا، وتُسهم في تقويةِ المركز القانونيِّ للأفراد في مُواجهةِ السُّلطاتِ العامَّة، بجعْلِ هذه الوسيلةِ في مُتناولِهم، ليمكنَهم من خلالها استدعاءُ أعلى محكمةٍ في البلاد؛ لفحصِ مدى دستوريَّةِ مَزاعمِهم بوجودِ انتهاكاتٍ لحقوقهم الدُّستوريَّة، وقد أفصحت الاستراتيجيَّةُ الوطنيَّةُ لحقوقِ الإنسانِ عن أهمِّيَّةِ الدَّور الذي تتولَّاه المحكمةُ الدُّستوريَّةُ العُلْيا بوجهٍ خاصٍّ؛ كوسيلةِ انتصافٍ ضامنةٍ للإنفاذِ الفعليِّ لمبادئ حقوقِ الإنسانِ وحُرِّيَّاته الأساسيَّة، بل إنه حتى الدِّراسات التي تُوصِي بهذه الدَّعوى أسلوبًا للرَّقابةِ الدُّستوريَّةِ لم تتناولْها بالدِّراسةِ المُناسبةِ، فتقتصرُ فقط على إدراجِها ضِمن توصياتِها.

ثالثًا: إشكاليَّةُ الدِّراسةِ:  

     الإشكاليَّةُ التي تتناولُها الدِّراسةُ بالبحث، تتَّضح عندما تبقى بعضُ حالاتِ انتهاكِ الدُّستور بعيدةً عن الرَّقابةِ الدُّستوريَّةِ التي تتولَّاها المحكمةُ الدُّستوريَّةُ العُلْيا وَفْقًا للدُّستورِ والقانونِ، في ضوءِ الأوضاعِ الدُّستوريَّةِ والقانونيَّةِ القائمة حاليًّا.

     إذ إنه ولئن كانت السُّلطةُ التَّشريعيَّةُ تخضعُ أعمالُها لرقابةِ الدُّستوريَّةِ عبر طريقَيْ الدَّفعِ والإحالةِ، إلا أنَّ السُّلطتين التَّنفيذيَّةَ والقضائيَّةَ تبقى أعمالُهما خارجَ دائرةِ الرَّقابةِ الدُّستوريَّةِ، فالأعمالُ التي تصدر عن الأولى، وتتمثَّل في القراراتِ الإداريَّةِ التي تُصدرها وَفْقًا للاختصاصِ المنوطِ بها وَفْقًا للمادَّة 167 بند 5 من دستور 2014، تخضعُ فقط لرقابةِ المشروعيَّةِ التي يتولَّاها القضاءُ الإداريُّ بصفةٍ أساسيَّةٍ بمُوجِبِ دعوى الإلغاء، وهي رقابةٌ إن انتصفَتْ للحقوقِ الدُّستوريَّةِ فخيرٌ وسلامٌ؛ على الرَّغم أنَّ مهمَّتَها فقط التَّحقُّقُ من مُطابقةِ هذه القراراتِ للقانون دون بحثِ الجوانبِ الدُّستوريَّةِ التي تستقلُّ بها جهةُ الرَّقابةِ على الدُّستوريَّةِ، وهي المحكمةُ الدُّستوريَّةُ العُلْيا، أمَّا إذا استنفدَتْ هذه الرَّقابة، وبقِيَ الانتهاكُ الدُّستوريُّ قائمًا، فتثور حينئذٍ الإشكاليَّةُ التي نتناولُها في الدِّراسة، إذ يبقى القرارُ هنا نافذًا رغم انتهاكهِ أحدَ الحقوقِ الدُّستوريَّةِ.

     ولو طالعْنَا نصَّ المادَّة 167 من الدُّستور سالفِ الإشارةِ إليها، لوجَدْنا بنودَها الباقيةَ، وليس أهمَّها عقدُ القروضِ وتنفيذُ القوانينِ ...، يُمكن أنْ نتصوَّر معها خروج السُّلطةِ التَّنفيذيَّةِ عن حدودِ الشَّرعيَّةِ الدُّستوريَّة في أثناءِ القيامِ بالاختصاصاتِ المنوطةِ بها، وربَّما دون أن تخضعَ لرقابةِ المشروعيَّةِ التي تتكفَّل بها دعوى الإلغاءِ أو قد تخضع لها ولا يتمُّ الانتصافُ، وهذا ما نعالجُهُ في هذه الدِّراسة؛ إذ تحلُّ الدَّعوى الدُّستوريَّةُ الفرديَّةُ ملاذًا أخيرًا للانتصافِ المرجوِّ في هذا الصَّددِ.

     أمَّا من جانبِ السُّلطةِ القضائيَّةِ، والتي تتشكَّل منها المحاكمُ على اختلافِ أنواعِها ودرجاتها، أفليس من المُتصوَّر كذلك أن يصدرَ حكمٌ قضائيٌّ، وتُستنفد درجاتُ الطَّعن عليه، ويبقى رغم ذلك مُنتهِكًا لأحد الحقوقِ الدُّستوريَّةِ التي يكفلها الدُّستورُ للمُتقاضين أو المُتَّهمين بحسَبِ نوعِ المُحاكمةِ، كحقِّ الدِّفاع مثلًا أو الحقِّ في المُحاكمةِ العادلةِ، وقرينة البراءة، والعدالة النَّاجزة ... إلخ.

     ومن ثمَّ فإنْ كانت وسائلُ الطَّعنِ في الأحكامِ القضائيَّةِ هي الأُخرى تُشكِّل انتصافًا؛ قد يردُّ به على الآليَّةِ المُقترَحةِ، إلا أنه انتصافٌ من أجْلِ القانون وليس من أجْلِ الدُّستور، فليس من حقِّ أحدٍ مُطابقةُ أعمالِ أيِّ سُلطةٍ على أحكام الدُّستور سوى الجهةِ التي أقامها أمينةً على حمايتهِ، وهي المحكمةُ الدُّستوريَّةُ العُلْيا، وقبل ذلك ليس من بين أسبابِ الطَّعنِ على الأحكام القضائيَّة وَفْقًا للقانون؛ مُخالفة الدُّستور، وحتى لو كان من بينها الإخلالُ بأحدِ الحقوقِ الدُّستوريَّةِ المُتعلِّقة بالمُحاكمات (كحقِّ الدِّفاع مثلًا)، فإنَّ تفسيرَ محكمةِ الطَّعن للنَّصِّ التَّشريعيِّ المُتعلِّق بهذا الحقِّ قد ينتهكُ بدوره الحقَّ الدُّستوريَّ، فما السَّبيلُ حينئذٍ للانتصاف ...؟

     وحتى لو عُدنا للسُّلطةِ التَّشريعيَّة، لَوجدْنَا أنَّ الرَّقابةَ الدُّستوريَّةَ في شأنها، وَفْقًا للأوضاعِ القائمةِ، لا تُغطِّي كلَّ مناطقِ خروجِها على الشَّرعيَّةِ الدُّستوريَّة، ويأتي في مُقدِّمَتِها حالةُ الامتناعِ التَّشريعيِّ؛ فقد يمتنع المُشرِّعُ - عمدًا أو إهمالًا - عن إصدارِ تشريعٍ يُلزمه الدُّستورُ بإصدارِه، وتتَّضح أهمِّيَّةُ تلك الحالة وخطورتها، عندما يتعلَّقُ الامتناعُ بتنظيم مُمارسة حقٍّ دستوريٍّ أو حُرِّيَّةٍ نصَّ عليها الدُّستورُ أو أنْ يغفلَ تنظيم ضمانةٍ للحقوق والحُرِّيَّات، إضافةً إلى أنه قد يُصدر قانونًا ما مُنتهكًا الشَّرعيَّةَ الدُّستوريَّةَ، ولكنْ لا تُثار بشأنه مُنازعةٌ قضائيَّةٌ، ليتسنَّى تحريك الرَّقابةِ الدُّستوريَّةِ ضدَّه، وَفْقًا للأوضاع الحاليَّةِ التي تفترضُ ذلك.

     أيضًا تبقى الاتِّفاقيَّاتُ الدَّوليَّةُ - وهي التي تحُوزُ قوَّةَ القانونِ الدَّاخليِّ (المادَّة 151 من الدُّستور) - بعيدةً عن رقابةِ الدُّستوريَّةِ، حال عدم إثارةِ مُنازعةٍ قضائيَّةٍ بشأنها - وقلَّما تُثار-؛ حتى يتسنَّى إخضاعُها لرقابةِ الدُّستوريَّة، وتدقُّ المشكلةُ في ضوءِ الأوضاعِ القائمةِ من أنَّنا لا نأخذُ بالرَّقابةِ الدُّستوريَّةِ السَّابقة - على الأقلِّ على الاتِّفاقيَّاتِ والمُعاهدات الدَّوليَّة -، فضلًا عن أنه يُنظر لمُعظمِها على أنه من أعمالِ السِّيادة، فتأتي هذه الدَّعوى ليُمكِن من خلالها إخضاعُ مثلِ هذه الاتِّفاقيَّاتِ للرَّقابة الدُّستوريَّة، حالما انتُهكت الشَّرعيَّةُ الدُّستوريَّةُ، وتعلَّقت بأمورٍ قد يَرى المُشرِّعُ تحديدَها حصرًا.

     إذن يُمكن القولُ: إنَّ المناطقَ المكشوفةَ أو الرَّماديَّة (grey areas) والمُتمثِّلة في بقاءِ بعضِ حالات انتهاك الدُّستور، لا سيَّما من قِبل السُّلطتين التَّنفيذيَّةِ والقضائيَّةِ بعيدةً عن رقابةِ الدُّستوريَّةِ([3])، هي محورُ إشكاليَّةِ الدِّراسة، باعتبارها تدورُ حول الوسيلةِ التي يُمكن من خلالها ضمانُ احترامِ السُّلطاتِ الثَّلاث للدُّستور، ومن شأنها إنفاذُ الحقوقِ الدُّستوريَّةِ في مُواجهتِها جميعًا؛ لتُكْمِلَ بدورها القصورَ القائمَ في وسائلِ الرَّقابةِ أو الحماية الدُّستوريَّة القائمة.

     وعلى ضوء ما تقدَّم، يبقى التَّساؤلُ الأهمُّ الآن هو: هل ما زال من المَقبولِ، ونحن نتطلَّع للجمهوريَّة الثانية، وقد كتبْنا دستورًا يفتحُ الطَّريقَ للمُستقبل، ويتَّسق مع الإعلان العالميِّ لحقوق الإنسان، الذي شاركْنا في صياغتهِ ووافقْنا عليه؛ كما ورد بديباجةِ دستورنا الحاليِّ، أنْ نُبقِيَ على هذه المناطق (الرَّماديَّة) بعيدةً عن رقابةِ الدُّستوريَّة؟

     وجديرٌ بالإشارةِ هنا أنَّ هذا الإعلانَ الصَّادرَ عام 1948، نصَّ في مادَّتهِ الثامنةِ على أنه: "لكلِّ شخصٍ حقُّ اللُّجوء إلى المحاكمِ الوطنيَّةِ المُختصَّةِ لإنصافهِ الفعليِّ من أيِّ أعمالٍ تَنتهك الحقوقَ الأساسيَّةَ التي يمنحها إياه الدُّستور أو القانون"، وقد أطلقت الدَّولةُ المصريَّةُ في سبتمبر من عام 2021، استراتيجيَّتها الوطنيَّةَ لحقوقِ الإنسان، وأوردتْ بها أنَّ تحقيقَ التَّنميةِ المُستدامة والشَّاملة لن يتحقَّق إلا بسيادةِ القانونِ واحترامِ حقوقِ الإنسانِ ودمْجِ أهدافِها ومبادئها في السِّياساتِ العامَّةِ للدَّولة، ومن هنا يبرزُ السُّؤال الآخَرُ وهو: هل يُمكن تحقيقُ هذه الأهداف في ظلِّ الآليَّاتِ الحاليَّةِ للرَّقابةِ الدُّستوريَّة؟

     كلُّ هذه الأمور وتلك، تأتي مُعالجتُهَا مُثيرةً لإشكاليَّاتٍ عديدةٍ، تتمثَّلُ في طبيعةِ هذه الدَّعوى، ومكانها بين وسائلِ الانتصافِ عمومًا، وكذا شروطَ قبولِها، لا سيَّما شرطَا الصِّفة والمصلحةِ، فضلًا عن المُتطلَّب اللَّازم لإقامتِها وقبولِها؛ وهو استنفادُ سُبلِ الانتصافِ المُتاحة، وبحْثُ الاستثناءاتِ عليه كما وردتْ في بعضِ النُّظُمِ المُقارنة كالنِّظام الألمانيِّ والإسبانيِّ على سبيل المثال، وكذا نطاقَ الرَّقابةِ التي تُحرِّكُها هذه الدَّعوى، لا سيَّما في مُواجهةِ السُّلطتين التَّنفيذيَّةِ والقضائيَّةِ، وأثر الحكمِ الذي يَصدُر فيها، وكيفيَّة جبرِ الضَّررِ الذي ترتَّب جرَّاء انتهاكِ أحدِ الحقوقِ الدُّستوريَّةِ، وهذا ما سوف نتناولُه بالبحثِ والدِّراسةِ -إن شاء الله-.

رابعًا: منهجُ الدِّراسة:

     تختلفُ الأنظمةُ الدُّستوريَّةُ والقانونيَّةُ حول العالمِ في مُستوى الحمايةِ التي تكفُلها لدساتيرها، وتتباين في مدى استجابتِها لمبادئَ وأفكارٍ ترسَّختْ في العقلِ الجمعيِّ للأمم المُتحضِّرة، وهي سموُّ الدُّستورِ، والفصلُ بين السُّلطاتِ، وحقوقُ الإنسان، وغيرها.

     وباعتبارنا جزءًا من هذا العالم، نُسهم منذ أزمانٍ بعيدةٍ في بناء الحضارةِ الإنسانيَّةِ، فلدينا أقدَمُ حضارةٍ في التَّاريخ، وقد وجدْنا لدى نظمٍ عديدةٍ وسيلةً فعالةً تكفل الحمايةَ القضائيَّةَ للدُّستور بوجهٍ عامٍّ، والحقوقَ الدُّستوريَّةَ بوجهٍ خاصٍّ، كان حقًّا علينا أن نتناولَها بشيءٍ من الدِّراسة، لعلَّ المُشرِّع المصريَّ يبادرُ باستحداثِها في نظامنا القضائيِّ الدُّستوريِّ، لا سيَّما أننا عرفْنا الرَّقابةَ الدُّستوريَّةَ – الآن - منذ ما يزيدُ عن مائةِ عامٍ، حين ألقى المستشارُ برنتون – رئيسُ محكمةِ الاستئناف المُختلط مُحاضرتَه بعنوان: "مهمَّة السُّلطةِ القضائيَّةِ في المسائل الدُّستوريَّةِ بالولايات المُتَّحِدة ومصر"، وقد حان الوقتُ لتطويرها، استجابةً لتطلُّعاتٍ - على مُستوى الأفرادِ والحكَّام - حالمةٍ بمُستقبلٍ أفضلَ، لا سيَّما بعد التَّعديل الذي أُدخل على قانون المحكمةِ الدُّستوريَّةِ العُلْيا بالقانون رقْم 137 لسنة 2021، بإضافةِ اختصاصٍ (مهمٍّ) للمحكمةِ يُمكِّنها - استنادًا إليه - من فحصِ دستوريَّةِ قراراتِ المُنظَّماتِ الدَّوليَّة وأحكام المحاكمِ الأجنبيَّة بناءً على طلبٍ يُقدَّمُ إليها من رئيسِ مجلسِ الوزراء، وليست الشَّرعيَّةُ الدُّستوريَّةُ أقلَّ من الأمنِ القوميِّ، فكلاهما إمَّا أن يكون مِعولَ بناءٍ أو معولَ هدمٍ.

     وجديرٌ بالإشارة، أنَّ المحكمةَ الدُّستوريَّةَ الاتِّحاديَّةَ في ألمانيا باتَتْ تَحظى بنظرةٍ (إيجابيَّةٍ) تتجاوز المحيطَ الإقليميَّ، لدرجة أنَّ بعضهم يَرْجِعُ الفضلَ في وجودِ النِّظام الدُّستوريِّ الدِّيمقراطيِّ في ألمانيا إليها، وما ذلك إلا لأنَّ القضاءَ الدُّستوريَّ أصبح يتمتَّعُ بالعالميَّة علمًا وعملًا، بعد ما اتَّسع نطاقُ مبدأ عولمةِ الدَّساتير، فتعمَّقت على إثرِ ذلك الدِّراساتُ المُقارنةُ مُحاولةً لفهْمِ الأنظمةِ القضائيَّةِ الدُّستوريَّة حول العالم من أجل الاهتداءِ بها، وقد نرى في إطار ذلك تعدُّدَ الاجتماعاتِ التَّنسيقيَّةِ التَّشاركيَّةِ بين المحاكمِ الدُّستوريَّةِ والعُلْيا والمجالسِ الدُّستوريَّةِ على مُستوياتٍ إقليميَّةٍ ودوليَّةٍ، انطلاقًا من عالميَّةِ القضاء الدُّستوريِّ([4]).

     وانطلاقًا من ذلك، لم يكن أمامَنا طريقٌ آخرُ لهذه المُحاولةِ البحثيَّة سوى المنهج المُقارن، لدراسة الموضوع محلِّ الدِّراسة، انطلاقًا من أنَّ محلَّه آليَّةٌ تميَّزت بها النُّظُمُ الدُّستوريَّةُ المُقارنةُ في دول أوروبا وأمريكا اللاتينيَّة وغيرها، دون أغلبِ النُّظُم العربيَّة - أخِذًا في الاعتبارِ النِّظامَ الكويتيَّ الذي أقرَّ هذه الدَّعوى في مُواجهةِ القوانين والمراسيم بقوانين واللَّوائح فحسب، بمُوجب القانون رقْم 109 لسنة 2014 التي أُدخلت على قانونِ إنشاءِ المحكمةِ الدُّستوريَّةِ الصَّادر بالقانون رقْم 14 لسنة 1973.

     وقد آثرْنا تناوُلَ الموضوعِ بنظرةٍ مُقارنةٍ على شتَّى النُّظُم الدُّستوريَّةِ والقانونيَّةِ التي أقرَّتْ هذه الآليَّة؛ كي نكونَ على بيِّنةٍ من أمرها في مُختلفها، ولا نقِفُ عند نظامٍ بعينِه، حتى لا نُصاب بمحدوديَّةِ الرُّؤية، وتَضِيق مساحةُ الاستفادةِ من التَّجارِبِ المُقارنةِ، على اختلافِ خلفيَّاتِها التَّاريخيَّةِ والقانونيَّةِ والقضائيَّة، ويأتي هذا النَّهجُ رغمَ التَّميُّزِ الواضحِ للنَّموذجِ الألمانيِّ، والنَّموذج الإسبانيِّ لهذه الدَّعوى، وهو ما سيكونُ واضحًا ومحلَّ اعتبارٍ لدى تناوُلِنا الموضوع.

     بيْدَ أنه قد امتزج مع هذا المنهجِ المُقارنِ في مواضعَ ليست بقليلةٍ، المنهجُ التَّحليليُّ؛ من أجل التَّعرُّفِ على أحكام هذه الدَّعوى من واقع النُّصوصِ الدُّستوريَّةِ والقانونيَّةِ لدى النُّظُم المُقارنةِ التي أقرَّت هذه الوسيلةَ طريقًا للوصولِ للمحاكمِ الدُّستوريَّةِ لديها، ولأجل استنباطِ ضوابطِها وشروطِ قبولِها وآثار أحكامِها منها.

خامسًا: صعوباتُ الدِّراسة:

     إذا كان هناك من صعوباتٍ في تناوُلِ الموضوع، فلن نُبالغَ في شأنِها بالتَّأكيد؛ فكلُّ تجربةٍ بحثيَّةٍ لا بُدَّ لها من مُعوِّقاتٍ، يحاول الباحثُ تطويعَها على مدار رحلتهِ البحثيَّةِ، وإلا ما استحقَّ أن يكون باحثًا، ومن هنا يُمكن أنْ نقولَ: إنَّ الصُّعوباتِ التي واجَهْناها تتمثَّلُ فيما يأتي:

أولًا: عدم وجودِ تنظيمٍ تشريعيٍّ للدَّعوى محلِّ الدِّراسةِ حتى نتناولَه بشيءٍ من التَّحليل والدِّراسة، وهذا كان أمرًا مُفترَضًا من البدايةِ؛ باعتبار أنَّ نظامنا القضائيَّ الدُّستوريَّ لا يَعرِفُ هذه الدَّعوى من الأساس، ولذلك وضعْنا الأحكامَ العامَّةَ التي تُنظِّم الرَّقابةَ على دستوريَّةِ القوانين، والتَّنظيم المُقارن للدَّعوى محلِّ الدِّراسةِ لدى الدُّول التي أخذَتْ بها، فضلًا عن أحكامِ دعوى الإلغاءِ التي يستقلُّ بها القضاءُ الإداريُّ - لوجه الشَّبهِ أو القُربِ منها - نُصبَ أعيُنِنا من أجلِ تخطِّي هذه العَقَبةِ.

ثانيًا: كان من المنطقيِّ عدمُ وجودِ تطبيقاتٍ قضائيَّةٍ لهذه الدَّعوى باعتبار أنَّ نظامَنَا القضائيَّ الدُّستوريَّ لا يعرِفُها كما أسلفنا القول، بل كانت هناك أحكامٌ عديدةٌ ترفض أو تقضي بعدم القبول، إذا ما حاول الأفرادُ طَرْقَ ساحةِ العدالةِ الدُّستوريَّةِ التي تستقلُّ بها المحكمةُ الدُّستوريَّةُ، ومن قبلها المحكمةُ العُلْيا، بصورةٍ مُباشرةٍ، وقد اهتدَيْنا في ذلك بأحكامِ المحاكمِ الدُّستوريَّةِ المُقارنة، وفي مُقدِّمتها المحكمةُ الدُّستوريَّةُ الاتِّحاديَّةُ في ألمانيا، والمحكمةُ الدُّستوريَّةُ في إسبانيا.

ثالثًا: وعلى المستوى الفقهيِّ، لم نجِدْ دراسةً مُتكاملةً تتناولُ هذه الدَّعوى كنهجِ الدِّراساتِ الفقهيَّة- مثلاً- التي تتناولُ دعوى الإلغاءِ أمام القضاء الإداريِّ - على سبيل المثال - أو تلك التي تتناولُ موضوعَ الدَّعوى الدُّستوريَّة بصفةٍ عامَّةٍ، وَفْقًا للطُّرق التي يعرِفُها نظامُنا الدُّستوريُّ والقانونيُّ، ولعلَّ المُبرِّرَ وراء ذلك واضحٌ؛ وهو أنها وسيلةٌ لم تُقرَّ حتى الآن تشريعيًّا، حتى تأخذ نصيبَها من اهتمام الفقه الدُّستوريِّ، بل لن نبالغَ إنْ قلنا: إنَّ الدِّراساتِ الفقهيَّةَ التي تتناولُ موضوعاتِ القانون الدُّستوريِّ بوجهٍ عامٍّ، ليست كنظيرتِها في مجال القانونِ والقضاءِ الإداريِّ.

 

سادسًا: خطَّة الدِّراسة:

     على ضوءِ ما تقدَّم؛ وجدْنا أنه من المُناسبِ تناولُ موضوعِ الدِّراسةِ على النَّحو التَّالي:

الباب الأول: رقابةُ الدُّستوريَّة والدَّعوى الدُّستوريَّة الفرديَّة

الفصل الأول: التَّعريفُ برقابةِ الدُّستوريَّةِ ووضعها في مصر.

الفصل الثاني: الملامحُ الرَّئيسةُ للدَّعوى الدُّستوريَّةِ الفرديَّةِ كأحد أشكالِ رقابةِ الدُّستوريَّةِ.

الباب الثاني: التَّنظيمُ القانونيُّ للدَّعوى الدُّستوريَّة الفرديَّة.

الفصل الأول: الجوانبُ الإجرائيَّةُ للدَّعوى الدُّستوريَّةِ الفرديَّةِ.

الفصل الثاني: الجوانبُ الموضوعيَّةُ للدَّعوى الدُّستوريَّةِ الفرديَّةِ.

 

     ولعله من الواضح من مُطالعةِ هذه الخطة، أننا كنَّا حريصين من البدايةِ على أنْ تتناولَ هذه الدِراسة شتَّى الأمورِ المُتعلِّقةِ بالموضوع سواءٌ من النَّاحيةِ التَّاريخيَّةِ أو التَّنظيميَّة. وعلى ضوء ذلك؛ فقد تناولنا في الباب الأول من هذه الدِراسة: نبذةً عن رقابةِ الدُّستوريَّة؛ من ناحيةِ ماهيَّتِها والأُسسِ التي تقومُ عليها -أخذًا في الاعتبار أنَّ الفكرة محل الدِراسة تنتمي بالأساس إليها-، وقد اتَّضح لنا كيف أن رِقابة الدُستورية ترتكزُ على أسسٍ وأفكارٍ ترسَّختْ في العقلِ الجمعيِّ لأيِّ أمَّةٍ مُتحضِّرةٍ؛ ألَا وهي: حقوقُ الإنسان، وسموُّ الدُّستور، والدِّيمقراطيَّةُ، والدَّولةُ القانونيَّةُ، والفصلُ بين السُّلطات.

     وطالعْنا كيف وُلدت الرَّقابةُ الدُّستوريَّةُ لدى النُّظُم المُقارنة، وانتبهْنا إلى أنَّ الدَّولةَ الإسلاميَّةَ عرفت نظامَ رقابةِ الدُّستوريَّةِ من قرونٍ مَضَتْ؛ لتضمَنَ النَّفاذَ الفعليَّ لأحكامِ كتاب الله (القرآن الكريم) وسنة نبيِّه الأعظم سيِّدِنا محمدٍ (صلى الله عليه وسلم)، وقد شكَّلَا سويًّا القانونَ الأساسَ (الدُّستور) للدَّولة الإسلاميَّة.

     وتطرَّقنا للضَّروراتِ التي تدعو لوجودِ الرَّقابةِ الدُّستوريَّة -من الأساس- في أيِّ نظامٍ للحكم، وتعرَّفنا على أشكالها كما استقرَّتْ لدى الأنظمةِ المُقارنة، وتبيَّنَّا أن الرَّقابةَ القضائيَّةَ تتربَّعُ على عرش هذه الأشكال من ناحيةِ الفعاليَّةِ والنَّجاعة، وعرفنا وضعَ وتنظيمَ هذه الرَّقابةِ في مصر، ووقفْنا من ذلك على أنَّنا لا نأخذُ حتى الآن بالدَّعوى الدُّستوريَّةِ الفرديَّة، فلا يُمكن للأفرادِ التَّوجُّهُ مُباشرةً للمحكمةِ الدُّستوريَّة العُلْيا، وكان ذلك هو موضوع الفصلِ الأولِ من البابِ الأول من الرِّسالة.

     ثم تناولْنا في الفصل الثاني من الباب الأول: الملامحَ الرَّئيسةَ للدَّعوى موضوع الدِّراسة، انطلاقًا من كونها أحدَ أساليبِ رقابةِ الدُّستوريَّةِ جنبًا إلى جنبٍ مع اعتبارها الوسيلةَ الأهمَّ والضَّامنةَ للانتصاف القضائيِّ المرجوِّ للحقوقِ الدُّستوريَّة؛ فتعرَّفنا على ماهيَّتها في النُّظُم التي أخذَتْ بها، وكما تناولتها الدِّراساتُ التي تعرَّضَت إليها، وطالعْنا نشأتَها -تاريخيًّا- في الأنظمةِ المُقارنة، وأدركْنا الأدوارَ التي يُمكن أن تؤدِّيَها لخدمةِ الشَّرعيَّةِ الدُّستوريَّة، وحماية الحقوقِ الدُّستوريَّةِ لا سيَّما في مُواجهةِ السُّلطتين التَّنفيذيَّةِ والقضائيَّةِ، وكذا في مُواجهةِ السُّلطةِ التَّشريعيَّةِ في المناطق التي تبقى بعيدةً عن الرَّقابة الدُّستوريَّةِ وَفْقًا للأوضاعِ القائمةِ حاليًّا، واستوضحْنا سِمتَها الاحتياطيَّة، وطبيعتَها المختلطةَ التي تجمع بين العينيَّةِ والشَّخصيَّةِ، وتعرَّفنا على نماذجِها الثلاثة؛ وهي: الدَّعوى المُجرَّدةُ، الدَّعوى شبهُ المُجرَّدة، والشَّكوى الدُّستوريَّة، واعتبرْنا أن هذه النَّماذجَ هي حالاتٌ لهذه الدَّعوى أكثر من كونِها أشكالًا مُتباينةً، أخذًا في الاعتبار قدر المرونةِ الذي يُصيب شرطَ المصلحة، ويختلف باختلافِ العملِ محلِّ الدَّعوى، حفاظًا على اعتباراتِ الأمن القانونيِّ، فيتغيَّرُ حينها شكلُ الدَّعوى. وقد تبين لنا أنَّ اختلافَ مُسمَّياتِ الدَّعوى بين هذا وذاك؛ يُبرِّرُه الاختلافُ القائمُ بين الأنظمةِ الدُّستوريَّةِ والقانونيَّة حول العالم، ويُشير بالتَّأكيد إلى تنوُّعِ الحلول التي تَنتهجُها الدُّول المُتحضِّرة؛ من أجل ضمانِ أفضلِ حمايةٍ للحقوق الدُّستوريَّة( )، وهو الأمرُ الذي تناولته الدراسة بشيءٍ من التَّفصيل في موضِعه بهذا الفصل.

     وبعد ذلك تناولْنا في الباب الثاني: التَّنظيمَ القانونيَّ للدَّعوى، وعرضْنا فيه الجوانبَ الإجرائيَّةَ للدَّعوى في الفصل الأول من هذا الباب والذي تطرَّقْنا فيه إلى محلِّ الدَّعوى والصِّفة والمصلحة كمُتطلَّبين مهمَّيْن لقبول الدَّعوى- وقد اختلفا باختلافِ شكلِ الدَّعوى-، وكذا تعرَّضْنا للشَّرطِ الأهمِّ لاتِّصالها بالمحكمةِ الدُّستوريَّةِ وهو استنفادُ وسائلِ الانتصافِ الأُخرى، خاصَّةً عند الطَّعنِ على أعمال السُّلطتين التَّنفيذيَّة والقضائيَّة، والاستثناءات الواردة عليه، والتي تخضعُ لتقديرِ المحكمةِ ضمانًا لفعاليَّة الحمايةِ القضائيَّةِ التي تُوفِّرُها، وتناولْنا كذلك كيفيَّةَ نظر الدَّعوى إذا ما اتَّصلت بالمحكمة، وتعرَّفنا أساليبَ نظرِها في المحاكم الدُّستوريَّةِ المُقارنةِ، والتي اتَّفقت أغلبُها على ضرورةِ الفحصِ الأوليِّ لهذه الدَّعاوى، حتى لا تتعطَّل جهةُ الرَّقابةِ على الدُّستوريَّة بغير الجادِّ منها، وكان لنا وقفةٌ مع أوجُهِ الطَّعن بموجب هذه الدَّعوى وعوارضِ الخصومةِ التي قد تُصيبها، وتعرَّفنا كذلك التَّدابيرَ الوقتيَّةَ التي يُمكن للمحكمة اتِّخاذها حمايةً للحقوقِ الدُّستوريَّةِ من ضررٍ يُتعذَّر تداركُه، لو تمَّ الانتظارُ للفصل فيها.

     ثم دلفْنا للفصل الثاني من هذا الباب، وتعرَّفنا فيه الجوانبَ الموضوعيَّةَ للدَّعوى، واستهلَلْناه بمبحثٍ مهمٍّ عن الحدود الفاصلةِ بين ولايةِ المحكمةِ الدُّستوريَّةِ المُختصَّة بنظر هذه الدَّعوى،
وولايةِ المحاكم الأُخرى غير الدُّستوريَّة، وطالعْنا فيه كيف أنَّ الصِّراعَ أو التَّوتُّرَ بين المحاكمِ العُلْيا من جانبٍ والمحاكم الدُّستوريَّة من جانبٍ آخر وصل أحيانًا لأنْ يصِفَها بعضُهم بالحربِ بين القضاة
(War of Judges)، كما هي عليه الحالة البلجيكيَّة، ثم انتقلْنا لتحديدِ نطاقِ الدَّعوى على ضوءِ العمل محل الدَّعوى، وضوابط التقيُّد الذاتيِّ التي تمارسُها المحكمةُ لتلزم نقطةَ التَّوازنِ التي تُحافظ على الحقوق الدُّستوريَّة آمنةً، وتَرعى بها في ذات الوقت اعتباراتِ الأمن القانونيِّ، وتناولْنا كذلك كيف يُمكن للمحكمةِ أن تجبرَ الضَّررَ الذي تعرَّضت له الحقوقُ الدُّستوريَّة، ووقفْنا عند حُجِّيَّةِ الحكمِ الذي تصدرُه المحكمةُ في هذه الدَّعوى، والتي يختلف مداها بحسبِ العملِ محلِّ الدَّعوى، وتعرَّفنا النَّتائجَ التي تترتَّب على هذا الحكم، ومن ضِمنها آثارُ الحكمِ ونطاقها الزَّمنيُّ، وعرفنا كيف أن المحكمةَ الدُّستوريَّةَ العُلْيا تعرف الدَّعاوى الفرديَّة وإن كانت بعيدةً عن مجالِ الرَّقابةِ الدُّستوريَّة، حيث تُقام أمامها دعاوى الحكم كما عُرفت -فقهًا وقضاءً: دعوى التَّصحيح، ودعوى التَّفسير، ودعوى الإغفال، وتستندُ إلى القواعدِ العامَّةِ الواردة في قانون المُرافعات؛ لخلوِّ قانون المحكمةِ من تنظيمِها، وانتهيْنا من ذلك بتناوُلِ مسألةِ تنفيذ الحكمِ والإشكاليَّات التي يُمكن أن يثيرَها التَّنفيذُ وكيفيَّة مُعالجتها، ولعلَّنا بذلك نكون قد أوفينا موضوعَ الرِّسالةِ حقَّه من البحثِ والدِّراسة.

     وبناءً على ما سبق ذِكرُه فقد توصَّلْنا من خلال هذه الدِّراسةِ إلى عدَّة نتائجَ وبعضِ التَّوصياتِ نعرضُ لها على النَّحو التالي:

 

أولًا: النَّتائج:

  1. تَبيَّن لنا أن الرَّقابةَ الدُّستوريَّةَ لا سيَّما القضائيَّة، هي الأسلوبُ الآمنُ لضمانِ إنفاذِ مبادئ الحكم الرَّشيد، بل إن اللَّافت للانتباهِ أن الرَّقابةَ الدُّستوريَّةَ ذاتها تتوقَّف فعاليتُها على هذه المبادئ والأفكار؛ فيكون العطاءُ بينهما مُتبادَلًا.
  2. أدركْنا كيف أن الدَّولةَ الإسلاميَّةَ عرفت- منذ قرونٍ بعيدةٍ- رقابةَ الدُّستوريَّة؛ لضمانِ إنفاذِ أحكام القرآن الكريم والسُّنة النبويَّةِ الشَّريفة؛ باعتبارهما يُشكِّلان سويًّا دستورَها بالمفهوم المعاصر.
  3. على ضوء أن الدَّولةَ الإسلاميَّةَ عرفت الرَّقابةَ الدُّستوريَّة، ووفقًا للمادَّة الثانية من الدُّستور؛ يتأكَّد لنا أنَّنا امتدادًا لهذه الدَّولة؛ طالما أن مبادئَ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ الغرَّاء، هي المصدرُ الرَّئيسُ للتَّشريعِ في مصر، وأن المرجعَ في تفسيرِها مجموعُ أحكام المحكمةِ الدُّستوريَّةِ العُلْيا الصَّادرة في هذا الشَّأن([5])، بما يسمحُ لهذه المحكمةِ من خلال رقابةِ الدُّستوريَّةِ على القوانين واللَّوائح مُعالجة أيِّ خروجٍ تشريعيٍّ عليها.
  4. ظهر لنا جليًّا أن الأخذ بالرَّقابةِ الدُّستوريَّةِ ليس من قبيلِ الرَّفاهيةِ الدُّستوريَّة، إنما يستدعي ذلك ضروراتٍ أكيدةً، لم يعُدْ هناك ثمَّةَ جدلٌ بشأنها؛ لضمانِ بقاءِ الدُّستور حيًّا ينبضُ في شتَّى مناحي الحياةِ السِّياسيَّةِ والاقتصاديَّةِ والاجتماعيَّة.
  5. بات واضحًا أن مصرَ قد انتهجت أسلوبَ الرَّقابةِ الدُّستوريَّةِ المركزيَّة، عندما أقامت المحكمةُ الدُّستوريَّةُ العُلْيا جهةً للرَّقابةِ القضائيَّةِ على دستوريَّة القوانين واللَّوائح منذ دستور1971، وهي محكمةٌ واحدةٌ مُتخصِّصةٌ، قائمةٌ بذاتها؛ لا تتبع أيًّا من سلطاتِ الدَّولة، وقد كان هذا نهجها أيضًا عند إنشاء المحكمة العُلْيا عام 1969.
  6. تأكَّدنا أن النِّظامَ القضائيَّ الدُّستوريَّ لدينا لا يعرفُ الدَّعوى الدُّستوريَّةَ الفرديَّة أسلوبًا للرَّقابة الدُّستوريَّة.
  7. لا شكَّ أن انتهاجَ الدَّولةِ المصريَّةِ أسلوبُ الرَّقابةِ الدُّستوريَّةِ المركزيَّة؛ يُمهِّد الطَّريقَ لإقرار الدَّعوى الدُّستوريَّة الفرديَّة، كما طالعنا في هذه الدراسة.
  8. وجدْنا أيضًا أن المُشرِّعَ قد أخذ بالرَّقابةِ القضائيَّةِ اللَّاحقةِ على الدُّستوريَّة، منذ إنشاء المحكمةِ العُلْيا، ومن بعدها المحكمةُ الدُّستوريَّةُ العُلْيا، بغضِّ النَّظر عما كان قد أقرَّه في دستور 2012 (المادَّة 177) من رقابةٍ دستوريَّةٍ سابقةٍ تتولَّاه المحكمةُ الدُّستوريَّةُ العُلْيا، على مشروعاتِ القوانين المنظِّمة لمُباشرةِ الحقوقِ السِّياسيَّةِ والانتخابات الرِّئاسيَّة والتَّشريعيَّة والمحليَّة، بناءً على إحالةٍ من رئيس الجمهوريَّةِ أو مَجلس النُّوَّاب قبل إصدارِها؛ لأنه سرعانَ ما عدل عنه في التَّعديلاتِ الدُّستوريَّةِ التي أُدخلت على هذا الدُّستور عام 2014.
  9. تبيَّن لنا بجلاءٍ كيف أن الدَّعوى الدُّستوريَّةَ الفرديَّة، تعرفها نظمُ القضاءِ الدُّستوريِّ المقارن حول العالم، منذ زمنٍ بعيدٍ، امتدَّ في المكسيك إلى مؤتمرِها الوطنيِّ التَّأسيسيِّ الأول عام 1841 تحت مسمَّى "دعوى ضمانةِ الحقوق"، وأقرَّها الدُّستورُ الألمانيُّ (لأول مرَّةٍ في أوروبا) عام 1949 تحت اسم "الشَّكوى الدُّستوريَّة".
  10. لم تعرف النُّظُم المُقارنةُ هذه الدَّعوى فقط في مُواجهةِ السُّلطة التَّشريعيَّة، إنما أقرَّتْها في مُواجهة السُّلطاتِ العامَّةِ كافَّة؛ إمعانًا في الحماية المرجوة للحقوق الدُّستوريَّة، فكما يأتي انتهاكُ الدُّستور من السُّلطة التَّشريعيَّة، تُصاب كذلك الحقوقُ الدُّستوريَّةُ من السُّلطتين التَّنفيذيَّة والقضائيَّة.
  11. تأكَّدنا كذلك أن طُرقَ تحريكِ الرَّقابةِ الدُّستوريَّة المعمول بها حاليًّا في مُواجهةِ السُّلطة التَّشريعيَّةِ لا تغطِّي كلَّ مناطقِ الخروجِ على الشَّرعيَّةِ الدُّستوريَّة، ويأتي في مقدِّمتها حالة الامتناعِ التَّشريعيِّ؛ فتأتي الدَّعوى محلُّ الدِّراسةِ لتردعَ مثل هذه الحالة، وهو ما بات واضحًا من واقعِ هذه الدِّراسة.
  12. تأتي الدَّعوى محلُّ الدِّراسة لتقدِّمَ سبيلًا للانتصافِ في مُواجهة قانونٍ ينتهك الشرعية الدُستورية أو يتهدَّد الحقوقَ الدُّستوريَّةَ ولم تثُرْ بشأنه منازعة قضائية، حتى يُمكن إخضاعهِ لرَّقابةِ الدُّستوريَّة وَفْقًا للطُّرق الحاليَّة، بل إنها ربَّما تكون الوسيلةَ الوحيدةَ للانتصافِ لحقوق الجيلِ الثالثِ من حقوق الإنسان بوجهٍ خاص، وهي: الحقوق الجماعيَّة وتأتي في مقدِّمتها حقوقُ الأجيالِ القادمة، وهذا ما تبيَّنَ لنا أيضًا من هذه الدِّراسة.
  13. لا تخوَّفاتِ منطقيَّةٌ من جراءِ استحداثِ هذه الدَّعوى في نظامِنا القضائيِّ الدُّستوريِّ، فلن نخترعَ العجلةَ- كما يُقال-؛ فهي أسلوبٌ أو نظامٌ معمولٌ به في نظمٍ عديدةٍ، يختلفُ تاريخُها وموروثُها الحضاريُّ والثقافيُّ، وقد وضعوا له من الضَّوابطِ والأحكامِ ما يضمن فعاليتَه، وعدم إساءة اللُّجوءِ إليه، ولسنا بعيدين عن ذلك، ونحن ننطلقُ الآن نحوَ المستقبل، لا سيَّما أن الرَّقابة الدُّستوريَّةَ في مصرِنا يمتدُّ تاريخُها إلى ما يزيدُ عن مائةِ عامٍ، كما طالعنا في هذه الدراسة.
  14. لا شكَّ أن الطَّبيعةَ الاحتياطيَّةَ للدَّعوى محلِّ الدِّراسة، وشرط استنفادِ وسائلِ الانتصافِ المتاحة قبل اللُّجوءِ للمحكمةِ الدُّستوريَّةِ العُلْيا عبر هذه الدَّعوى، وسلطة المحكمةِ التَّقديريَّةِ حيال شروطِ قبولِ الدَّعوى، والفحصَ الأوليَّ للدَّعاوى، مع إمكانية فرض كفالة (مناسبة) تُودع عند إقامة الدعوى وتُصادر حال عدم قبولها، فضلًا عن ضوابطِ التقيُّدِ الذاتيِّ التي تضعُها المحكمة بنفسها، كلَّها أمورٌ كفيلةٌ بضبطِ استعمالِ هذه الآليَّةِ وضمان فعاليتِها، جنبًا إلى جنب مع قواعد المسئولية المدنية وضوابط عدم إساءة استعمال الحقوق وفقًا لأحكام القانون المدني وقانون المرافعات؛ باعتبارهما يُشكلا القواعد العامة في هذا الشأن.
  15. كشفت لنا النُّظُمُ المُقارنةُ عن أشكالٍ ثلاثٍ للدَّعوى محلِّ الدِّراسة هي: الدَّعوى المُجرَّدة، التي تأتي على نسقِ دعوى الحسبةِ أو الدَّعوى الشَّعبيَّة، وتقام بصفةٍ أساسيَّةٍ ضدَّ القوانين، والدَّعوى شبه المُجرَّدة، التي تقتربُ من الدَّعوى المُجرَّدة، وتبعدُ عنها -فقط- باشتراطِها توفُّرِ مصلحةٍ (قانونيَّة) لقبولها على خلافِ الأولى التي يُؤدِّي فيها المدَّعي دورَ المواطنِ الحارسِ على الدُّستور، وأخيرًا الشَّكوى الدُّستوريَّة التي تُعالج انتهاكاتِ الحقوقِ الدُّستوريَّة جرَّاء أيٍّ من أعمال السُّلطات العامَّة، لا سيَّما التَّنفيذيَّةُ والقضائيَّةُ.
  16. تكشف لنا من خلال هذه الدِراسة كيف أن الوضع التشريعي القائم (المادة ٢٩/ بند ب من القانون رقم ٤٨ لسنة ١٩٧٩ بإصدار قانون المحكمة الدستورية العليا) يُنصب المحاكم والهيئات ذات الاختصاص القضائي قيمًا على المحكمة الدُستورية العُليا في مباشرة اختصاصها بالرقابة الدستورية بناء على الدفع الذي قد يُبديه الخصوم بعدم دستورية النص التشريعي المُطبق على النزاع الذي تنظره هذه المحاكم؛ لتأذن لهم بإقامة الدعوى الدستورية إذا ما قدرت جدية دفعهم؛ إذ إنه على الرغم من أن تلك المحكمة أُنيط بها حصرًا رقابة الدُّستوريَّة، إلا أن تلك المحاكم والهيئات يُمكنها حجب ولاية هذه المحكمة؛ برفض هذا الدفع؛ مُستقلةً بتقدير عدم جديته، دون أن تتاح الفرصة للمحكمة الدُستورية العليا التعقيب على هذا التقدير وبحث مدى ملاءمته، ليُضحى الأمر -بوضوح- بمثابة تسليط لهذه المحاكم أو الهيئات على جهة الرقابة الدستورية في مسألةٍ تمس ولايتها الدُستورية، باعتبار أن الأمر يتعلق بشبهااتٍ تحوم حول مدى دستورية النص التشريعي محل الدفع بعدم الدستورية.
  17. وجدْنا أن المُشرِّعَ المصريَّ سبقُ نُظرَاءَه في بعضِ البلدانِ التي تعرَّضنا لها بالدِّراسة (ألمانيا وإسبانيا على سبيل المثال) في شمول الرَّقابةِ الدُّستوريَّةِ لكافَّة الحقوقِ والحُرِّيَّاتِ التي يكفلها الدُّستور، فلم يميِّز بين الحقوقِ الأساسيَّةِ وغيرها كنظيرِه الألمانيِّ الذي خصَّ الأساسيَّة منها -والحقوق المساوية لها- بالحمايةِ التي توفِّرُها الشَّكوى الدُّستوريَّة، ولا بين الحقوقِ الأساسيَّةِ والحُرِّيَّات العامَّة كنظيرِه الإسبانيِّ أيضًا، وهو ما يُزبد من فعالية الدعوى محل الدِراسة حال إقرارها.
  18. احترنا مع ما تكشف لنا من وجودِ توتُّرٍ أو صراعٍ -إن شئت القول- بين المحاكمِ العُلْيا والمحاكم الدُّستوريَّة في بلدانٍ كثيرةٍ، لدرجةٍ عبر عنها بعضهم وهو ينظرُ للحالةِ البلجيكيَّة بالحربِ بين القضاة ...!، وتكشَّفت لنا الأسبابُ وراءَ ذلك، وكانت مؤدِّيةً لهذه النتيجةِ بلا شكٍّ، كما طالعْناها في موضعهِ.
  19. تبيَّن لنا كذلك التَّمايزُ بين مدى الحُجِّيَّةِ المقرَّرة للحكمِ بعدم الدُّستوريَّةِ في حالةِ القوانين، ومثيله الصَّادر في شأنِ الأعمالِ ذات السِّمةِ الفرديَّة، تأسيسًا على أنَّ الأولى تشكِّل بالأساسِ قواعدَ عامَّةً مجرَّدةً فتصطبغُ بها الأحكامُ الصَّادرةُ في شأنها، والتي تكون مطلقةً بالتَّأكيد، على عكس الطَّائفةِ الثانية.
  20. تكشف لنا الفرقَ بين الأثرِ الرَّجعيِّ والأثرِ المُباشرِ للأحكامِ الصَّادرةِ بعدم الدُّستوريَّة، ووجدنا أن المُشرِّعَ آثرَ إقرارَ الأثرِ الرَّجعيِّ لأحكامِ المحكمةِ بعدم الدُّستوريَّةِ باستثناءٍ محدودٍ، وتبيَّن لنا كذلك المغايرة في هذا الصَّددِ لدى الأنظمةِ المُقارنة.
  21. ظهر لنا جليًّا كيف أن القواعدَ العامَّةَ الواردة في قانونِ المُرافعاتِ باعتبارِه القانونَ الإجرائيَّ العامَّ تطبق في بعضِ المواضعِ الخاصَّة بالدَّعوى الدُّستوريَّةِ طالما أنها لا تتناقضُ مع طبيعةِ الدَّعوى الدُّستوريَّة، ولا حرج في ذلك طالما أن المحكمةَ تُراعي طبيعةَ الدَّعوى الدُّستوريَّة، ومن ثمَّ وجدْنا أنه لا حرج في إعمالِها في شأنِ الدَّعوى محلِّ الدِّراسة بما لا يتناقضُ مع طبيعتها.

 

 

ثانيًا: التَّوصيات:

  1. دعوةِ اللَّجنةِ العُلْيا الدَّائمة لحقوقِ الإنسانِ القائمة على متابعةِ تنفيذِ الاستراتيجيَّةِ الوطنيَّة لحقوق الإنسان -انطلاقًا من مسئوليَّتها وَفْقًا للمادَّة الثالثة بند 10 من قرارِ إنشائِها رقْم 2396 لسنة 2018- إلى التَّقدُّم بمشروعِ قانونٍ لتعديل قانونِ المحكمةِ الدُّستوريَّة العُلْيا -وفقًا للضَّوابط الدُّستوريَّة في هذا الشَّأن-؛ بإضافةِ الدَّعوى الدُّستوريَّةِ الفرديَّةِ إلى طرقِ تحريكِ الرَّقابةِ الدُّستوريَّةِ أمام تلك المحكمة، وإتاحة استعمالِها في مُواجهةِ أعمالِ السُّلطاتِ العامَّة الثلاث، بالأحكام والضَّوابطِ التي أوضحْناها في هذه الدِّراسة -وإذ نجد نصَّ المادَّة 192 من الدُّستور الحالي يسمح للمُشرِّعِ العاديِّ بإضافة أيِّ اختصاصاتٍ أُخرى لهذه المحكمة، وكذا يسمحُ له بتنظيم الإجراءاتِ المتَّبعةِ أمامها، وقد أعمل المُشرِّعُ ذلك بالفعل؛ وأصدر القانون رقْم 137 لسنة 2021 باستحداثِ رقابةِ المحكمةِ على قراراتِ المنظَّمات الدَّوليَّةِ وأحكام المحاكمِ الأجنبيَّةِ-، على أن يبادر المُشرِّعُ الدُّستوريُّ بالنَّصِّ على حقِّ الأفرادِ في إقامةِ هذه الدَّعوى في التَّنظيم الخاصِّ بالمحكمةِ الدُّستوريَّةِ العُلْيا في الدُّستور، لدى إجرائهِ أيَّ تعديلاتٍ دستوريَّةٍ في المستقبل؛ حتى لا يُضحي تنظيمُها (التَّشريعيُّ) رهنَ إرادةِ المُشرِّعِ العاديِّ وهواه مستقبلًا.
  2. دعوةِ المُشرِّعَ إلى المبادرةِ بتعديلِ قانونِ المحكمةِ الدُّستوريَّة العُلْيا على النَّحو المبيَّن بالتَّوصية الأولى، إذا لم تبادر اللَّجنةُ العُلْيا الدَّائمة لحقوقِ الإنسانِ بدعوته إلى ذلك؛ وقد رأينا الفقيهَ الفرنسيَّ موريس دوفرجيه قد دعا بعد عامٍ واحدٍ من إقرارِ دستورِ الجمهوريَّةِ الفرنسية الخامسة في يناير 1958، إلى منحِ الأفرادِ حقَّ الطَّعنِ المُباشرِ على القوانين أمام المجلس الدُّستوريِّ، وكانت إيطاليا قد قاربتْ هي الأُخرى على إقرارِ هذه الدَّعوى بمناسبةِ تعديلاتٍ دستوريَّةٍ أجرتْها عام 1997 -وإن لم يكتبْ لهذه المحاولةِ النَّجاح في آخرِ لحظةٍ لأسبابٍ أوضحناها في موضعِها-.
  3. ما ندعو لإقرارِه هنا هو الدَّعوى الدُّستوريَّةُ الفرديَّة، التي تأخذُ ملامحها من الأشكالِ الثلاثةِ محلِّ الدِّراسة، بحيث يُمكن إقامتُها ضدَّ أعمالِ السُّلطةِ التَّشريعيَّةِ (القوانين واللَّوائح) إذا ما تضمَّنت انتهاكًا لأيٍّ من الحقوقِ الدُّستوريَّةِ أو جاء انتهاكُها فجًّا للشَّرعيَّةِ الدُّستوريَّة، وأيضًا يُمكن إقامتُها بصفةٍ أساسيَّةٍ ضدَّ القراراتِ الإداريَّة، والأحكامِ القضائيَّة، حالما شكَّلت انتهاكًا للحقوقِ الدُّستوريَّة، بشرطِ استنفادِ طرقِ الطَّعنِ المتاحةِ في مُواجهة هذه الأعمالِ ذات السِّمة الفرديَّة.
  4. دعوةِ المُشرِّعَ الدُّستوريَّ إلى تنظيمِ المحكمةِ الدُّستوريَّةِ العُلْيا على نحوٍ يُناسب منحَها سلطةَ النَّظر في الدَّعوى الدُّستوريَّةِ الفرديَّة، حسبما أوضحْنا ذلك تفصيلًا في موضعهِ بهذه الدِّراسة، لا سيَّما تحديد عددِ أعضاءِ المحكمةِ في الدُّستور، وتحديد مدة عضويتهم بالمحكمة، واشتراك سلطاتِ الدَّولةِ الثلاث في ترشيح أعضائها، وتشكيل دائرتين بها: واحدةٍ للرَّقابةِ الدُّستوريَّةِ، والثانيةِ لمسائلِ التَّنازُعِ والاختصاصاتِ الأُخرى المنوطةِ بالمحكمة، وكذا تشكيلَ دوائرَ لفحصِ الدَّعاوى الدُّستوريَّة الفرديَّة بالمحكمة (نظام الفحص الأوليِّ للدَّعاوى الفرديَّة)؛ على شاكلةِ لجانِ العرائضِ أو نظام الغرف المعمول به في المحكمةِ الدُّستوريَّةِ الاتِّحاديَّة في ألمانيا، مع تركِ التَّنظيمِ الدَّاخليِّ في ذلك للجمعيَّة العموميَّةِ بالمحكمةِ بعد وضعِ القواعدِ العامَّةِ المُتعلِّقة به من قِبل المُشرِّع، تقديرًا لكونها جهةَ الرَّقابةِ على الدُّستوريَّة في البلاد، وهي جديرةٌ بهذه المهمَّة، وهديًا بما هو مُستقَرٌّ عليه في هذا الشَّأن لدى كثيرٍ من النُّظُمِ المُقارنة.
  5. دعوةِ المُشرِّعَ إلى الأخذِ بالاستثناءاتٌ التي أقرتها العديدِ من النُّظُمِ المُقارنة -لا سيَّما النِّظامان الألمانيُّ والإسبانيُّ- على شرطِ استنفادِ سبلِ الانتصافِ الأُخرى قبل إقامةِ هذه الدَّعوى؛ وكان حاصلُها: الأهمِّيَّةُ الدُّستوريَّةُ الأساسيَّةُ للمسألةِ التي تُثيرها الشَّكوى أو وجودُ ضررٍ يتهدَّد الحقوقَ الدُّستوريَّةَ يتعذَّر تداركُه لو تمَّ الانتظارُ لاستنفادِ هذه السبل، وذلك عند إقرارِه وتنظيمِه لهذه الدَّعوى؛ طالما أن ذلك سيخضعُ لتقديرِ المحكمة.
  6. دعوةِ المحكمةَ الدستورية العليا إلى الانتصارِ دائمًا للطَّبيعةِ العينيَّةِ للدَّعوى الدستورية، وذلك في كلِّ حالةٍ تستدعي هذا الانتصار؛ تقديرًا منها للاعتباراتِ المتَّصلةِ بضرورةِ حمايةِ الشَّرعيَّة الدُّستوريَّة، وكما يقول الفقيهُ جيز بأنه يجِبُ ألا يتجاوزَ شرطُ المصلحةِ اللازِم لقبول الدعوى حدودَ أنه وُجد من أجل تلافي الدَّعاوى الكيديَّةِ أو التي تفتقرُ للجديَّة.
  7. ضرورةِ فرضِ ميعادٍ للجوءِ للمحكمةِ الدُّستوريَّة العُلْيا عبر هذه الدَّعوى -لو تمَّ إقرارُها-، على شاكلةِ ما انتظمتْه الدَّساتيرُ والتَّشريعات المُقارنة، وعلى ذلك نرى أن يكون هذا الميعادُ بالنِّسبةِ للقوانين سنةً من اليومِ التالي لتاريخِ نشرِ القانونِ في الجريدة الرَّسميَّة، وستين يومًا في حالةِ الأعمالِ ذات السِّمة الفرديَّةِ -وهي القراراتِ الإداريَّةِ والأحكام القضائيَّة-؛ وذلك من اليومِ التالي لتاريخ استنفادِ طرق الطعنِ المُتاحة على هذه الأعمالِ، والمحكمة الدستورية العليا منوطة بتقدير مدى احترام شرط استنفاد سبل الانتصافِ المتاحة قبل اللجوء إليها عبر هذه الدعوى، وذلك على التفصيل الذي عرضناه في موضعه بهذه الرسالة.
  8. دعوةِ المُشرِّعَ إلى إقرارِ سلطةِ المحكمة في اتِّخاذ التَّدابيرِ أو الإجراءاتِ الوقتيَّةِ اللَّازمة للحفاظ على الحقوقِ الدُّستوريَّةِ أو الشَّرعيَّة الدُّستوريَّة إن لزمَ الأمرُ، في أثناءِ نظرِها للدَّعوى الدُّستوريَّةِ الفرديَّة، حالما تأكَّد لها أن الضَّررَ المُحيطَ بالشَّرعيَّةِ الدُّستوريَّةِ أو الحقوق والحُرِّيَّات يتعذَّر تداركُه لو تمَّ الانتظارُ للفصل في الدَّعوى، على ضوء أن العمليَّةَ القضائيَّةَ الدُّستوريَّة تستغرقُ وقتًا بلا شكٍّ، وحاصلُ هذه التَّدابيرِ هو وقفُ تنفيذِ العملِ محلِّ الدَّعوى (قانون أو قرار أو حكم) لحين الفصلِ في موضوعها، ويكون الوقفُ لمدَّةٍ محدَّدةٍ، بقرارٍ تتَّخذه المحكمةُ بتشكيلها الذي تصدرُ به الأحكام، ويُمكن تجديدُ مدَّة الوقفِ إذا قدَّرت المحكمةُ ضرورةً لذلك، وندعوه كذلك إلى إقرار سلطة المحكمة تلك حيال النصوص القانونية أو اللائحية التي قد تكون محلًا لدعوى بعدم الدُستورية، التي تُقام وفقًا للأوضاع القائمة حاليًا (طريق الدفع أو الإحالة).
  9. دعوةِ المُشرِّع إلى تقريرِ الأثرِ الرَّجعيِّ للحكم الصَّادرِ بعدم الدُّستوريَّةِ (صراحةً) في المادَّة 49/3 من قانونِ المحكمةِ الدُّستوريَّةِ العُلْيا الصَّادر بالقانون رقْم 48 لسنة 1979، بدلًا من اللُّجوءِ دائمًا لما ورَدَ بالمذكِّرة الإيضاحيَّةِ لهذا القانون في هذا الشَّأن، لخلوِّ النَّصِّ التَّشريعيِّ من ترتيبِ هذا الأثرِ بشكلٍ صريحٍ، وإن بات مفهومًا ومستقرًّا فقهًا وقضاءً.
  10. دعوةِ المُشرِّعَ إلى منحِ المحكمةِ الدُّستوريَّة العُلْيا السُّلطةَ الكاملةَ للإنتصافِ القضائيِّ (الفعال) للحقوقِ الدُّستوريَّة؛ إما بالتَّعويضِ عن الأضرار التي لحِقَت بها أو إعادة الإجراءاتِ السَّابقةِ التي كانت محلًا لها، وذلك على النَّحو الذي تناولْناه تفصيلًا في موضعهِ بهذه الدراسة.
  11. دعوةِ المحكمةَ الدُّستوريَّةَ العُلْيا إلى الأخذِ بفكرةِ القانون الحي والمتمثلة في إخضاع التَّفسيرِ القضائيِّ "غير الدُّستوريِّ" للقانونِ لرقابتِها الدُّستوريَّة، في ضوء ما وجدْناه من أن أحدَ السُّبلِ الفعالةِ لتلافي حدَّةِ الصِّراعِ أو التوتُّرِ بين المحكمةِ الدُّستوريَّةِ والمحاكم الأُخرى، يَكمُن في الأخذِ بهذه الفكرة، مثلما فعلت المحكمةُ الدُّستوريَّةُ الإيطاليَّة، ومن بعدها المجلس الدُّستوريُّ الفرنسيُّ، كما بيَّنا ذلك في موضعِه بهذه الدراسة.
  12. دعوةِ المحكمةَ الدُّستوريَّةَ العُلْيا إلى الأخذِ بفكرةِ الأحكامِ التَّفسيريَّةِ لتلافي الحكمِ بعدمِ الدُّستوريَّة؛ كلَّما أمكن لها تقديم تفسيرٍ للنَّصِّ التَّشريعيِّ يتواءمُ مع حكم الدُّستور، محاولةً منها لضبطِ سلطتِها في مجال الرَّقابةِ الدُّستوريَّةِ على القوانين؛ تلافيًا لحدوثِ توتُّرٍ بينها وبين السُّلطةِ التَّشريعيَّة.
  13. ندعو المُشرِّعَ إلى منحِ رئيسِ الجمهوريَّة، ورئيس مجلسِ الوزراءِ، وممثِّلي الهيئاتِ السِّياسيَّةِ بالضَّوابط الواردةِ في اللَّائحةِ الدَّاخليَّةِ لمَجلس النُّوَّاب (الأقليات البرلمانية)، وكذلك رؤساءُ أو ممثِّلو الطَّوائفِ الدينيَّةِ في شأن تطبيقِ حقوقِهم الدُّستوريَّةِ المُتعلِّقة بالمادَّة الثالثة من دستور 2014، وشيخ الأزهر باعتباره المرجعَ الأساسَ في العلومِ الدينيَّةِ والشُّئونِ الإسلاميَّةِ وَفْقًا للمادَّة السابعة من الدُّستور، وأيضًا النِّقابات، حقَّ إقامةِ الدَّعوى الدُّستوريَّةِ الفرديَّةِ أمام المحكمةِ الدُّستوريَّةِ العُلْيا، كما أوضحْنا ذلك تفصيلًا في موضعِه بهذه الدِّراسة، ويدور كلُّ هذا بالتَّأكيدِ في إطارِ مزايا تحويل أيِّ نزاعٍ قد يكون سياسيًّا أو ثقافيًّا أو حقوقيًّا أو دينيًّا إلى نزاعٍ قانونيٍّ (دستوريٍّ) تحسمه جهةُ الرَّقابةِ على الدُّستوريَّةِ التي أقامها الدُّستورُ لحمايته، وهكذا تكون المحكمةُ الدُّستوريَّةُ العُلْيا حاضرًا أساسًا محايدًا في كلِّ حالةٍ تستدعي ذلك، كنُظرائِها في دولٍ عديدةٍ.
  14. ندعو المُشرِّعَ كذلك إلى منحِ المُؤسَّساتِ الدَّاعمة لحقوقِ الإنسانِ كالمجلس القوميِّ لحقوق الإنسان، والمجلس القوميِّ للمرأة، والمجلس القوميِّ للطُّفولة والأمومة، وكذا النِّيابة العامَّة والنِّيابة الإداريَّة؛ باعتبار أن الأُولى: هي الأمينةُ على الدَّعوى العموميَّة في مصر، والثانية: تأتي على شاكلةِ "الأمبودسمان" المعروف لدى الدُّول الاسكندنافيَّة أو "مفوِّض الدَّولة" كما تعرفُه بعضُ النُّظُمِ الأوروبيَّة -وقد أعلنتْ ذلك اللَّجنةُ الوطنيَّةُ لمكافحةِ الفسادِ في تقريرِها الصَّادر عام 2020- حقَّ إقامةِ هذه الدَّعوى أمام المحكمةِ الدُّستوريَّة العُليا؛ ترسيخًا لدورِ هذه المؤسَّساتِ وتلك الهيئات في مجالِ حمايةِ حقوقِ الإنسان.
  15. دعوةِ المُشرِّع الدُّستوريَّ إلى التَّفكير مرَّةً أُخرى في إقرارِ الرَّقابةِ الدُّستوريَّةِ السَّابقة على مشروعاتِ القوانين المنظِّمة لمُمارسةِ الحقوقِ السِّياسيَّةِ وتنظيم الانتخاباتِ الرِّئاسيَّة والنِّيابيَّة والمحليَّة -على نحوِ ما كان قد أقرَّه في المادَّة 177 من دستور 2012- أخذًا في الاعتبار أنه بناءً على هذه القوانين يتمُّ تشكيلُ مُؤسَّساتِ الحكم في الدَّولةِ المصريَّة، وفي مقدِّمتها يتمُّ انتخابُ رئيسِ الجمهوريَّة، وليس من المستساغِ توقُّع الحكمِ بعدم دستوريَّةِ نصٍّ في القانونِ المنظِّم للانتخاباتِ الرِّئاسيَّة، يكون قد انتخبَ على أساسهِ رئيس الجمهوريَّة، وندعوه كذلك إلى الأخذِ بهذا النِّظام (الرَّقابة الدُّستوريَّة السَّابقة) في شأن الاتِّفاقيَّاتِ والمُعاهداتِ الدَّوليَّة، تلافيًا لآثارِ الرَّقابةِ اللَّاحقة على الالتزاماتِ الدَّوليَّةِ التي ترتِّبها هذه الاتِّفاقيَّاتُ في مُواجهة أيِّ دولةٍ.
  16. دعوةِ المُشرِّع إلى المبادرة لتعديل قانون المحكمة الدستورية العليا، بإضافة فقرةٍ ثانية للبند (ب) من المادة 29 من القانون رقم 48 لسنة 1979 بإصدار قانون المحكمة الدستورية العليا، يتضمن منح الخصوم في الدعوى الموضوعية حق الطعن -استقلالًا- على الحكم الذي تصدره المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي برفض الدفع المٌبدى منهم بعدم دستورية النص التشريعي المٌطبق على النزاع الموضوعي، وذلك أمام المحكمة الدستورية العليا خلال شهر من تاريخ الحكم، لتنظره منعقدة في غرفة المشورة، مع مراعاة تعديل المادة 41 مكررًا من هذا القانون لتشمل مثل هذه الطعون؛ حتى تُنزل المحكمة الدستورية رقابتها على تقدير محكمة الموضوع برفض هذا الدفع، بٌغية التحقق من مدى سلامة قضائِها في مسألةٍ تمس -بلاشك- ولايتها الدستورية، فإن هي ارتأت عدم سلامة قضاء محكمة الموضوع في هذا الشأن وقدرت جدية الدفع بعدم الدستورية؛ اُعتبر حُكمها في هذا الطعن بمثابة إذنًا لمن أقامه لرفع الدعوى الدستورية أمامها في المهلة المحددة بثلاث شهور في المادة 29/ب من قانون المحكمة سالف الإشارة إليها، أو قد ترى المحكمة إحالة الأوراق مباشرة -إن قدرت جدية الدفع- إلى هيئة المفوضين لتحضير الموضوع وإعداد تقرير فيه -وذلك حسبما يرتأي المشرع في هذا الشأن-، ولنا في نهج المشرع الكويتي في هذا الصدد نموذجًا (وفق ما نصت عليه المادة الرابعة/بند ب/الفقرة الثانية من القانون رقم 14 لسنة 1973 بإصدار قانون المحكمة الدستورية).
  17. الإصلاح القضائيُّ الشَّامل باتَ ضرورةً؛ ونحن نتطلَّع للجمهوريَّةِ الثانية في تاريخنا الحديث، ومن شأنه- إن تمَّ-؛ تخفيفُ العبءِ المتوقَّع على القضاءِ الدُّستوريِّ؛ إذ يُمكن حينها للمنظومةِ القضائيَّةِ تلبيَّة حاجةِ الأفرادِ للعدالةِ في شتَّى صُورِها، والتي قد تدفعُهم أحيانًا للُّجوءِ للقضاءِ الدُّستوريِّ، سعيًا وراءَ إنفاذِ حقوقهم، بل إن ذلك من شأنه تمكينُ القضاةِ من مواكبةِ الاتِّجاهات الحديثةِ التي تنادي بالتَّطبيقِ المُباشرِ لأحكامِ الدُّستور -لا سيَّما ما يتعلَّق منها بالحقوقِ الدُّستوريَّة-، ولا شكَّ أن ذلك يخفِّف كثيرًا من العبءِ المتوقَّعِ على قضاةِ الدُّستور.
  18. ضرورة استحداثِ برامجَ تعليميَّةٍ وتثقيفيَّةٍ على مستوى المدارسِ والجامعات، والمُؤسَّسات العامَّةِ والخاصَّة، ترمي إلى زيادة وعي الأفرادِ بحقوقِهم الدُّستوريَّة، ودورِهم في إنفاذها، وإحاطتهم بمهمَّة المحكمةِ الدُّستوريَّةِ العُلْيا في هذا الشَّأن، وتتضمَّن كذلك تنبيهًا للقائمين بأعباءِ السُّلطاتِ العامَّةِ إلى أهمِّيَّة احترامِ الدُّستور، وصون الحقوقِ الدُّستوريَّةِ من أجلِ الحفاظِ على التَّوازنِ المطلوبِ للعقد الاجتماعيِّ؛ لحمايةِ الدَّولة وضمانِ استقرارِها واستدامة مسيرةِ التَّنميةِ في ربوعها، ولا يُمكن هنا أن نغفلَ الأهمِّيَّةَ الكبيرةَ لتنميةِ وعي القضاةِ بالحقوقِ الدُّستوريَّةِ وإدراكهم لمضامينها؛ حتى تُصبح جزءًا من تكوينِهم الفكريِّ والقانونيِّ؛ إذ إنَّ ذلك يُسهم بالتَّأكيدِ في احترامِها وإنفاذها، ومن ثم يُؤدِّي إلى التَّخفيف من العبءِ المتوقَّع على جهةِ القضاء الدُّستوريِّ لأجل الانتصافِ لهذه الحقوقِ.
  19. إذا كانت ثورة 25 يناير نبهتنا إلى أهمِّيَّةِ إنفاذِ الحقوقِ الدُّستوريَّة، وضمان تمتُّع الأفرادِ بها قولًا وعملًا، وكانت ثورة 30 يونيو نبهتْنا -هي الأُخرى- إلى أهمِّيَّةِ احترامِ الشَّرعيَّةِ الدُّستوريَّة، والنزول على مبدأِ الفصلِ بين السُّلطات، وكنَّا بدورِنا أصحابَ تاريخٍ وتراثٍ دستوريٍّ ممتدٍّ منذ عام 1882 ومِن قبل ذلك، فإنَّنا بهذا التَّاريخِ الممتدِّ وهاتين الثَّورتين، يفترض أن نكون قد أدركْنا أهمِّيَّةَ الدُّستورِ في مسيرةِ أيِّ أمَّةٍ تتطلَّع لمستقبلٍ أفضلَ، ومن هنا يكون حريٌّ بنا أن نجعلَ من أيَّامنا يومًا نعظِّم فيه من أحكامَ الدُّستور -بفعالياتٍ احتفالية وتثقيفية في المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية وغيرها-، ونجدِّد فيه العهد بالتزامنا جميعاً بالشَّرعيَّةِ التي يفرضُها، ونطلقُ عليه "يوم الدُّستور" (Constitution Day)، ويُمكن أن يكونَ هذا اليوم لدينا هو 11 سبتمبر من كلِّ عامٍ (تاريخ إصدارِ دستورِ 1971)، الذي نصَّ -لأوَّل مرَّةٍ- على إنشاءِ هيئةٍ قضائيَّةٍ مُستقلَّةٍ قائمةٍ بِذاتها؛ تتولَّى الرَّقابةَ القضائيَّةَ على دستوريَّة القوانين؛ هي المحكمةُ الدُّستوريَّةُ العُلْيا. ويأتي ذلك على نسق ما انتهجته بعض الدول من تخصيصِ يومٍ للدستور: كالنرويج ١٧ مايو، وألمانيا ٢٣ مايو، وأستراليا ٩ يوليو، وإسبانيا ٦ ديسمبر، ...إلخ. ويأتي كذلك على غِرار الأيام الدولية التي خصصتها الأمم المتحدة للاحتفاءِ بمناسباتٍ مُحددة: كاليوم الدولي للأخوة الإنسانية ٤ فبراير، واليوم العالمي للطفل ٢٠ نوفمبر، واليوم العالمي لحقوق الإنسان ١٠ ديسمبر، ...إلخ. ولاشك أن ذلك سوف يُسهم في رفع وعي الأفراد بأهمية الدستور وتشكيل عقل جمعي يُؤمن بذلك؛ ومن ثم نضمن فعالية الدعوى الدُستورية الفردية، التي ارتأينا ضرورة إقرارها طريقًا للجوء للمحكمة الدُستورية العليا في مواجهة السلطات العامة الثلاث؛ تطلعًا مِنا لملامح الجمهورية الثانية في تاريخنا الحديث.

     وخِتامًا، نأمل أن يتم تناول موضوع الرسالة من قبل الفقه والقضاء الدستوري بصفةٍ خاصة، وصُناع التشريع ودوائر صُنع القرار في مصر بوجهٍ عام، بإيجابية تستشرف المستقبل، وتؤمن بملامحٍ جديدة للجمهورية الثانية، التي نترقبها جميعًا، لعله يجد طريقه للخروج للنور؛ بإقرار الدعوى محله في نظامنا الدستوري والقانوني، إيذانًا ببدء قضائنا الدستوري (الراسخ) عهدًا جديدًا عنوانه: مزيدًا من الفعالية والإسهام في صياغة مستقبل أفضل، تأسيسًا على المهام المنوطة به وتأثيراته في شتى مناحي الحياة.

 

الهوامش

 

([1]) Dr. Milton Ray Guevara, «Presidente del Tribunal Constitucional de la República Dominica», Opinión constitucional, 2014, p. 51.  

      مشارٌ إليه في: د. أحمد السوداني، ترجمةٌ لأحكام المحكمةِ الدُّستوريَّةِ الفيدراليَّة الألمانيَّة، الجزء الأول، مُؤسَّسة كونراد أديناور، المغرب، 2017، ص13.

([2]) جديرٌ بالإشارة أنَّ الأستاذ الدُّكتور/ أحمد فتحي سرور، يرى بأنَّ دستور 2014 هو دستورٌ جديدٌ بالفعل من النَّاحية الموضوعيَّة، وليس كما يُطلق بعضهم عليه من أنه تعديلٌ لدستور 2012؛ راجعْ في ذلك: د. أحمد فتحي سرور، القوانين المُكمِّلة للدُّستور في دستور 2014، مجلَّة الدُّستوريَّة، العدد 28، أبريل 2020، مُتاحٌ على الموقِع الإلكترونيِّ للمحكمة الدُّستوريَّة العُلْيا: المحكمة الدُّستوريَّة العُلْيا  (sccourt.gov.eg)

([3]) Gianluca Gentili, A Comparison of European Systems of Direct Access to Constitutional Judges: Exploring Advantages for the Italian Constitutional Court, Italian Journal of Public Law, Vol. 4, January 2012, Pp.162-163, Available at: http://ssrn.com/abstract=2143089

([4]) هملت ريفيلد- المُمثِّل المقيم لمُؤسَّسة كونراد أديناور، الرِّباط، المغرب، تمهيدٌ كتبَهُ للتَّرجمةِ التي أتمّها الدُّكتور/ أحمد السوداني في: د. أحمد السوداني، مرجعٌ سبَقَ ذِكرُه، ص15-17. 

([5]) أشير لذلك في ديباجة دستور 2014، مع تنويهٍ بإيداع هذه الأحكامِ في المضابط.