إطلالة مُقارنة على مسار جهود الإصلاح التشريعي

المستشار محمد عبدالفتاح عبدالبر

الأربعاء 9 فبراير 2022

* الكاتب: المستشار محمد عبدالفتاح عبدالبر - المستشار المساعد بمجلس الدولة

 

 تفعيلاً لقيمة سيادة القانون - والتي لا تكاد تخلو منها الوثائق الدستورية – لا بد أن تُعبر المنظومة التشريعية القائمة عن المجتمع الذي تحكم حركته وتنظم نشاط أفراده وعمل مؤسساته، وأن تترجم آماله إلى رؤىً واضحة وأن ترتقي بتطلعاته إلى واقع ملموس، بحيث تنقل خطط الحكومة من دائرة الأفكار الطموحة والأطروحات النظرية إلى حيز النفاذ بحيث تجد طريقها للتطبيق العملي.

   وحتى تؤدي المنظومة التشريعية هذا الدور بالكفاءة المنشودة، لابد أن تواكب حركة المجتمع وديناميكية تطوره، فلا تقف عند نقطة معينة تجاوزتها ظروف الواقع، أو أن تتمسك بنُظم هجرتها قاطرة الأمم المُتقدمة.

   ولكل ما تقدم، أضحى إصلاح منظومة التشريع ضرورة لا يجب أن تُخطئها عين، وبقدر ما يسارع القائمون على صناعة التشريع بالاستجابة لهذه الضرورة، بقدر ما يختصرون المسافة صوب تقدم مُجتمعاتهم.

    سنحاول في هذه الإطلالة أن نُلقي الضوء على مفهوم الإصلاح التشريعي وآلياته، وصولاً في الأخير لرسم ملامح مسار هذا الإصلاح.

 

1-  ماهية الإصلاح التشريعي

    لا يُمكن الاتفاق على معنى جامع مانع لعملية الإصلاح التشريعي، فللأخير أكثر من معنى، بحسب الزاوية التي يُنظر إليه منها، فيمكن مثلاً بشكل عام تعريفه من زاوية القائم عليه بأنه ناتج ما تقوم به الجهات أو الهيئات المسؤولة عن عملية إصلاح التشريع. وبينما يتعذر الوقوف على معنى واحد لهذا الاصطلاح، إلا أن الحد الأدنى المُتفق عليه هو أن الإصلاح التشريعي – بحسب موضوعه - هو تحسين مادة أو مضمون التشريع:

“Law reform is about the substance of the law. It means improving the law in significant ways”

    ولذلك فالإصلاح التشريعي – فنياً – يختلف عن مُراجعته revision([1]) أو توحيده شكلاًconsolidation ([2]) أو تقنينه موضوعاًcodification ([3])، أو إلغاء وحذف المهجور منهrepeal ([4]).

   ويُمكن القول بأن الإصلاح التشريعي قد يتضمن كل هذه المراحل أو بعضها، لكن أياً منها ليست الهدف في حد ذاته، فالهدف الذي ينبغي أن يتغياه أي جهد للإصلاح التشريعي هو الارتقاء بجودة التشريع؛ أي تحسين مادته، وهو ما قد يحتاج القيام به مُراجعة التشريعات القائمة، ودمج المرتبط منها، وبلورة موضوعها في ضوء فلسفة واحدة، وتخليص المنظومة التشريعية من بقايا الأفكار القانونية القديمة.

    وإذا كانت عملية التشريع عملية سياسية، كونها – كأي عملية من عمليات صناعة السياسات – تعتمد على موازنات بين اعتبارات متقابلة، تعكس مصالح مجموعات متنافسة، إلا أن عملية الإصلاح التشريعي أبعد ما يكون عن ذلك الطابع السياسي؛ فلا تستهدف الكيانات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي سوى الارتقاء بمنظومة التشريع، دون نظر إلى الأجندة السياسية لفريق أيدلوجي بعينه، ودون اعتبار للمصالح الضيقة لحزب سياسي مُعين، فقط توجه هذه الكيانات نظرها تلقاء الصالح العام في صورته المُجردة([5]).

***

2-  الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي

   تختلف الأنظمة المقارنة فيما يتعلق بتحديد الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي، والنموذجان الأكثر شيوعاً هما النموذج الكلاسيكي classic or standard model الذي يعتمد على إنشاء كيان مستقل للإصلاح التشريعي بموجب تشريع، والنموذج الأخر هو النموذج المؤسسي institute model الذي يتجسد في كيان مستقل أنشأته اتفاقية معينة من بعض القامات القانونية وأصحاب المصالح. وبعض الأنظمة تعهد بمهمة الإصلاح التشريعي لوزارة معينة يغلب أن تكون وزارة العدل، أو لمستوى رفيع داخل البناء القضائي، أوللجنة تؤلف لغرض معين، أو لشخص ما بصفته، للإدلاء بالرأي في موضوع معين، ثم رفع التوصيات إلى الوزير المختص.

***

3-  منتوج عملية الإصلاح التشريعي

    يتمخض عمل الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي عن توصيات بتغيير التشريع. وللقول بأن عملية الإصلاح التشريعي قد اكتملت لا بد أن تجد هذه التوصيات مجالاً للتطبيق، من خلال تبني العملية التشريعية لمُخرجاتها ومرئياتها. وبالنظر إلى أنه في غالبية النظم القانونية تقوم الحكومة بإعداد الأجندة التشريعية، فإن نجاح أي عملية إصلاح تشريعي مبني على مدى استعداد الحكومة لتبني توصيات الجهة القائمة على الإصلاح التشريعي. وبالنسبة للنموذج الكلاسيكي، فإن هذه التوصيات ستكون موجهة للحكومة.

     وبمجرد أن تتبنى الحكومة هذه التوصيات، ستأخذ الأخيرة مسارها داخل البرلمان، جنباً إلى جنب مع المشروعات المقدمة من الحكومة. وهذه المشروعات ذات مصادر متنوعة، فبعضها يتعلق بالوعود الانتخابية التي قطعها الحزب الحاكم على نفسه أثناء الانتخابات، وبعضها يتعلق بما دعت إليه بعض الأصوات الحزبية النافذة ومجموعات المصالح، أو ما يراه الوزراء من أولويات الوزارة، أو ما تطرأ به الظروف.

    وهكذا، فأمام توصيات الجهات القائمة على الإصلاح التشريعي مهمة صعبة لكسب اهتمام الحكومة بالأولوية على المصادر الأخرى، أخذاً في الاعتبار ضيق وقت العمل التشريعي، والخلاف حول الأولويات. ولكن على كل حال ينبغي أن تتكاتف الجهود استهدافاً لتحقيق الصالح العام في جميع الاتجاهات.

***

4-  الحاجة لجهات تتولى عملية الإصلاح التشريعي

    هل ثمة حاجة لإنشاء جهة مستقلة تضطلع بعملية الإصلاح التشريعي؟ بعبارة أخرى، هل تنطوي هذه العملية على صعوبات فنية خاصة تجعل من تحديد جهة مستقلة تختص بهذه العملية ضرورة لا يجب الالتفات عنها؟

    الإجابة على هذا السؤال تتضح باستعراض مزايا العمل بهذه الجهات:

- الخبرة المُتخصصة Expertise

 يمتاز العمل بجهات مُتخصصة تقوم على شئون الإصلاح التشريعي بميزة نوعية كبيرة، ألا وهي إيجاد بيت خبرة مُتخصص في شئون الإصلاح التشريعي، يضم بين جنباته مجموعة من المُتخصصين ذوي المعرفة القانونية. فضلاً عن أن وجود هذه الجهات يتيح إيجاد قنوات اتصال مع كثير من المعنيين بإصلاح المنظومة التشريعية، من القانونيين أو غيرهم من المهتمين بإصلاح بعض التشريعات ذات الصلة بمجالات خبرتهم التخصصية، أو أصحاب المصالح من غير المُتصلين بمراكز صناعة التشريع، فهؤلاء على وجه الخصوص يتعذر عليهم التواصل مع الدوائر التشريعية المختلفة، هنا تبرز أهمية جهات الإصلاح التشريعي المُتخصصة، التي تستقبل هؤلاء، وتسمع لتوصياتهم، لتدرسها، وترفعها – إن ارتأت وجاهتها – للحكومة بعد إفراغها في القالب القانوني، تمهيداً لعرضها على المُشرع.

    وكذلك فجهات الإصلاح التشريعي تملك استدعاء المتخصصين في مجالاتهم، وضمهم لتشكيلها، للاستفادة من خبراتهم، بما يساعد في النهاية على إخراج منتوج تشريعي متكامل، من الناحيتين القانونية والفنية في مختلف المجالات.

- تركيز الجهد وتحديد الهدفFocus

لا شك أن اختصاص جهة معينة بمهمة إصلاح المنظومة التشريعية يحقق ميزة نوعية كبيرة تتمثل في تركيز الجهود في اتجاه تحقيق هدف واحد، بعيداً عن تضارب الأولويات الذي غالباً ما يترتب على ترك هذه المهمة لجهة أخرى تقوم بأدوار أنشأت خصيصاً لأجل القيام بها، بحيث يصعب مع هذه الأدوار أن تتفرغ هذه الجهة للقيام بمهام إضافية كمهمة الإصلاح التشريعي.

فضلاً عن أن اختصاص جهة معينة بمهمة الإصلاح التشريعي يمتاز بتركيز مواردها صوب هذه المهمة، وهي المهمة التي تتطلب القيام ببعض الترتيبات وتدبير اللوجستيات التي تحتاج موارد مالية، كاستقدام الخبراء والأساتذة، وإجراء الإحصاءات، وتحليل البيانات، والقيام بدراسات الأثر التشريعي. وكما عَبَّر اللورد جاردينر عند تقديمه لمشروع قانون إنشاء اللجنة المختصة بالإصلاح التشريعي في بريطانيا: إذ أردت لعمل ما أن يتم إنجازه، فلا بد من أن تُحدد شخصاً تكون مُهمته الأساسية إنجاز هذا العمل:

“It may be your Lordships’ experience that things in life do not get done unless it is somebody’s job to do them. It has never been anybody’s job in England … to see that our law is in good working order and kept up-to-date.”

- الإستمرارية Continuity

لا شك أن إنشاء كيان يختص بعملية الإصلاح التشريعي، مع ما يفترضه ذلك من استمرارية وجوده، يقود في النهاية إلى تبني مشروع طويل الأمد لإصلاح المنظومة التشريعية، ذلك الإصلاح الذي لا يُمكن القيام به على فترات قصيرة، أو ربطه بمُبادرات مُتقطعة أو وقتية. وإيجاد هذا الكيان يساهم بشكل كبير في الحفاظ على استمرار وتدفق عملية الإصلاح التشريعي دون توقف قد يترتب عليه الحاجة لفترات إنتقالية بين كل مشروع لإصلاح المنظومة التشريعية وأخر، وهي النتيجة التي يتسبب فيها عدم وجود كيان دائم يتبني مشروع واحد تتكامل حلقاته، وإن تغير أشخاص القائمين عليه.

- الاستقلالية Independence     

   تُعد استقلالية الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعية ضرورة للوصول لإصلاح تشريعي حقيقي. ولا يُراد بهذه الاستقلالية عدم التدخل في عمل هذه الجهة من جانب الحكومة فقط، بل كذلك يتعين أن تكون هذه الجهة بمعزل عن أي ضغوط قد تُمارس عليها من أي كيان قضائي أو حتى مجموعات المصالح النافذة سياسياً. والسبب واضح، فهذه اللجنة لا تُمارس السياسة، وما تقوم به من مهام يكون له طبيعة فنية بحتة، فضلاً عن أن الحكومة ليست مضطرة للقبول بتوصيات اللجنة وإدراجها بأجندتها التشريعية.

  وإذا كان الأمر على هذا النحو، فمن مصلحة جميع الأطراف، ومن بينهم الحكومة، ترك المجال لهذه الجهة لمُمارسة عملها الفني بشكل مُستقل، بعيداً عن صخب الرأي العام أو توازنات السياسة. بل إن هذه الخصيصة هي التي تجعل من هذه الجهة محل ثقة الجميع، بداية من الحكومة، وأصحاب المصالح، والمجتمع المدني، وانتهاءً بالمواطنين. فالجميع سيكون على ثقة تامة بأن هناك جهة ما تقوم بدورها في جعل المنظومة التشريعية أكثر تكاملاً، حتى تعبر فعلاً عما يصيب المجتمع من تطور، وما يفرضه الواقع من متغيرات، وهو ما يعطي لما يتمخض عن عملها من توصيات ثقلاً ومصداقية لدى الجميع.

ومن حق الحكومة أن ترفض توصيات الجهة القائمة على الإصلاح التشريعي في خصوص موضوع ما لاعتبارات معينة، لكن العامل الحاسم في استقلالية هذه الجهة، هو أنه حال طُلب من هذه الجهة الرأي في موضوع معين، ينبغي أن تنحسر محاولات التدخل في عملها.

ويُعد إنشاء الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي بقانون ضمانة أساسية ضد أي محاولة للتدخل في عملها. غير أنه من وجه أخر، يجب أن تكون الجهة القائمة على الإصلاح التشريعي – كأي جهة عامة - محلاً للمساءلة عن مواردها وأوجه إنفاقها، وعن كونها تعمل في فلك قانون إنشاءها.

***

5- الإطار الذي تعمل فيه الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي

تُمارس الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي عملها وفق مجموعة من المُحدِدَات، منها نص إنشائها، وعلاقتها بغيرها من الجهات ذات الصلة بعملية الإصلاح التشريعي، وآلية اختيار الموضوعات التي تكون محلاً لعملية الإصلاح التشريعي، ومعايير هذا الاختيار، فضلاً عن التطورات المُعاصرة التي تُبَاشَر في ظلها هذه العملية.

ويُمكن القول بأن النصوص القانونية التي تنظم الجهات القائمة على عمليات الإصلاح التشريعي تكون على قدر كبير من المرونة والاتساع، وهذا يشكل أول تحدي يقابل هذه الجهات، بعبارة أخرى، ينبغي إيجاد آلية لتنظيم عمل هذه الجهات في ضوء محدودية مواردها بأفضل شكل ممكن.

1. نطاق النص المُنظم لعمل الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي.

عادةً ما يعهد النص القانوني المُنظم لعمل الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي بتكليف عام؛ هو إصلاح المنظومة التشريعية ونقلها للأفضل. ولأول وهلة يُمكن فهم أن هذه هي النية الأصلية لواضعي هذا النص، لكن هذا التصور لا يحول أبداً دون وضع أولويات لعمل هذه الجهات، بحيث يتم تنظيم هذا العمل وفقاً للظروف التي تجد هذه الجهات نفسها فيها.

وبصفة عامة يوجد نوعان من المهام التي قد تقوم بها الجهات القائمة على عمليات الإصلاح التشريعي، أولهما المهام المُحددة قصيرة المدة، وثانيهما مشروعات الإصلاح التشريعي طويلة الأجل. ويُفضل ألا يقتصر عمل هذه الجهات على نوع واحد من المهام، بل يجب أن يتنوع عملها بينهما.

  • المهام المُحددة قصيرة المُدة narrow-focus projects

قد يكشف واقع العمل عن عوار أو خلل تشريعي في تنظيم مسألة معينة، هنا تتدخل الجهة القائمة على الإصلاح التشريعي لرأب هذا الصدع في بناء التنظيم التشريعي بالنسبة لهذه المسألة بعينها، وهو تدخل يتسم بالتحديد والسرعة لعلاج هذه المُشكلة فوراً ووضع أنسب الحلول لها.

  • مشروعات الإصلاح التشريعي طويلة الأجلwide-ranging projects

إلى جانب التدخلات السريعة لإصلاح وجه من أوجه القصور التشريعي في مسألة مُعينة، تقوم الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي، وبالنظر للمرونة التي تُصاغ بها نصوص إنشائها، بتبني مشروعات طويلة الأجل للإصلاح التشريعي، الهدف منها إصلاح المنظومة التشريعية ككُل، وليس في موضوع بعينه أو لمواجهة مشكلة مُحددة.

وهذه المشروعات الشاملة تستهدف – كما ذكرنا في البداية – إصلاح أو تحسين مادة التشريع، وهو ما يتطلب مُراجعة البناء التشريعي ككُل، وتخليته من التنظيمات البالية والمهجورة، وتوحيده من الناحية الشكلية بضم التشريعات ذات الصلة في قانون مُوحد وشامل، إلى جانب توحيده من الناحية الموضوعية (أي تقنينه)، وذلك بصَبّه في قالب قانوني متماسك ومترابط في ظل فلسفة تشريعية مُتجانسة، كل ذلك في إطار من التطوير اللازم.

على أنه ينبغي بذل كثير من التحوط لدى تبني مشروعات الإصلاح التشريعي الشاملة، بسبب ما قد يحتاجه إنجاز هذه المشروعات من موارد ضخمة، وما يتخلل العمل عليها من صعوبات وتعقيدات فنية. ولعل ما تقدم هو ما أثنى كثير من الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي من الانخراط في مثل هذه المشروعات طويلة الأجل، تقديراً منها أن الأفضل هو توجيه مواردها وتركيز جهودها في مشروعات مُحددة، لا تحتاج عدة سنوات حتى تؤتي ثمارها المرجوة.

ورغم التحديات السابقة، إلا أن ثمة أسباب تدعو إلى تبني مثل هذه المشروعات طويلة الأجل، كاشتراط بعض المُنظمات الإقليمية للانضمام لعضويتها القيام بإصلاح تشريعي شامل، أو التحولات التي تطرأ على الأنظمة الدستورية داخل البلدان النامية، التي تستدعي القيام بإصلاح تشريعي شامل كيما تعكس المنظومة التشريعية التوجهات الدستورية المُستحدثة. فضلاً عن أنه لا يُمكن تجاوز حقيقة أن مرونة النصوص القانونية المُنشئة للجهات القائمة على عمليات الإصلاح التشريعي تفرض على هذه الجهات أن تنوع جهدها بين القيام بالإصلاحات التشريعية الطارئة، فضلاً عن تبني مشروعات شاملة ترتقي بالمنظومة التشريعية ككُل.

2. طبيعة العلاقة بين الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي.

قد تجد الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي نفسها في حاجة إلى التواصل مع جهات أخرى في سبيل أداء ما نيط بها مهام. وهذا التواصل قد يفرضه النص القانوني المُنشِأ لهذه الجهة، وقد تقدر أهميته هذه الجهة من تلقاء نفسها. ففي كثير من الأحوال تجد الأخيرة نفسها في مسيس الحاجة إلى التواصل مع جهات أخرى ذات صلة بعملية الإصلاح التشريعي بدرجة أو أخرى، تنظيماً للجهد وتبادلاً للخبرات، ولضمان توحيد مسار الإصلاح التشريعي في إطار من التوافق والتعاون.

وفوق ما تقدم، قد ترى الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي ثمة حاجة للتواصل مع مُنظمات المجتمع المدني ومفوضيات حقوق الإنسان العاملة داخل الإطار القانوني المُعترف به.

وعلاوة على ذلك، قد يعهد القانون بعملية الإصلاح التشريعي في مجالات بعينها لجهات مُعينة كالوزارات أو المؤسسات المسئولة عن حماية البيئة أو الصحة، هنا قد تتراجع الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي خطوة أو خطوتين للوراء، تقديراً منها أفضلية ترك المجال لهذه الجهات امتثالاً لأمر القانون، رغم أن لها اختصاص عام بعملية الإصلاح التشريعي. وفي المُقابل قد ترى هذه الجهات التعاون مع الجهة ذات الاختصاص الأصيل بعملية الإصلاح التشريعي. وبشكل عام طالما أن الهدف المُشترك هو الارتقاء بجودة التشريع، فكل تعاون مُخلص يُحقق هذا الغرض يجب أن يكون محل تقدير واعتبار من كل الأطراف المعنية بالعمل التشريعي.

3. آلية عمل الجهات القائمة على الإصلاح التشريعي.

إحدى مُحددات عمل الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي هو ما إذا كانت هذه الجهة تعمل تبعاً لبرامج عمل programmes – بناء على نص إنشائها، حيث تقوم بإعداد خطط تنظم عملها خلال فترة مُعينة. أو وفقاً لإحالات references or referrals ترد لها من جهات أخرى، كالوزارات المعنية مثلاً.

وبشكل عام لا يمكن - بشكل مُسبق - وضع إطار زمني مُحدد لإنجاز مشروع إصلاح تشريعي مُعين، فذلك يرتبط بتوافر الموارد، ودرجة تعقيد المشروع من الناحية الفنية، ومدى حاجة الحكومة لإنجاز هذا المشروع في ظرف زمني ضيق. وعلى أية حال فالجهات القائمة على الإصلاح التشريعي التي تعمل بنظام برامج العمل تحتاج لدورة زمنية تتراوح ما بين ثلاث وخمس سنوات. وأحياناً يتم ربط إنجاز برنامج العمل بمدة بقاء أغلبية أعضاء هذه الجهة في مواقعهم.

4. معايير اختيار موضوعات الإصلاح التشريعي.

يُمكن القول بأن ثمة معايير تحكم اختيار موضوع الإصلاح التشريعي، أي التنظيم القانوني الذي ترد عليه عملية الإصلاح التشريعي. منها أهمية هذا الموضوع، فتزداد أهمية تدخل الجهة القائمة على الإصلاح التشريعي بالقدر الذي يكون معه تنظيم قانوني معين غير مُرضي، وكذا بالقدر الذي تتعاظم معه المنافع المترتبة على هذا الإصلاح.

كما أن حصول تطورات تقنية أو علمية مُعينة في مجال ما قد يُضفي على موضوع مُعين أهمية خاصة، تكسبه أولوية ليكون محلاً لجهود الإصلاح التشريعي، لمواكبة هذه التطورات المُتسارعة، كما في مجال تكنولوجيات التواصل والجرائم الإلكترونية والذكاء الاصطناعي وجهود رقمنة الجهاز الإداري للدولة وسياسات الشمول المالي.

كذلك فملاءمة تدخل الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي يُعد أحد المعايير التي ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار؛ إذ يجب دائماً النظر فيما إذا كان ترك مهمة الإصلاح التشريعي في خصوص مسألة ما لجهة فنية لا تقوم بموازنات سياسة أمراً مُلائماً من عدمه.

وكذلك فموارد الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي وخبرة أعضائها ومعاونيهم من الباحثين القانونيين أمر يجب أن يكون دائماً تحت بصر هذه الجهة قبل الشروع في تبني برنامج إصلاح تشريعي في موضوع معين.  

***

6- منهج عمل الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي

يبدأ عمل الجهة القائمة على الإصلاح التشريعي بمرحلة ما قبل التشاور وأخذ الرأي pre-consultation. وفي هي المرحلة تقوم هذه الجهة من خلال أعضائها بإعداد الأبحاث اللازمة وصياغة نتائج هذه الأبحاث في ورقة أو أوراق  تلخيصيةconsultation papers ([6]) تمهيداً للانتقال للمرحلة اللاحقة وهي مرحلة التشاور حول هذه النتائج.

 الورقة التلخيصية

تجدر الإشارة إلى أن الكيفية التي تبدو عليه هذه الورقة التلخيصية تختلف بحسب المدة التي أتيحت للقيام بالبحث المطلوب، ومدى توافر المصادر، وطريقة إنشاء الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي؛ فبالقدر الذي يتنوع فيه إطار البحث الذي تقوم به الجهة القائمة على الإصلاح التشريعي ونطاق أصحاب المصالح وتعقيد المسألة موضوع عملية الإصلاح، سيختلف شكل هذه الورقة. إلا أنه على كل حال فإن هذه الورقة تعتبر أول طرح متبلور لهذا الموضوع أثناء عملية الإصلاح التشريعي.

وأياً كانت التسمية التي تُطلق على هذه الورقة وأياً كان الهدف منها والذي تعكسه هذه التسمية([7])، فإنه من الأهمية بمكان أن يُرَاعَى الجمهور المُستهدف بهذه الورقة، فعملية التشاور - التي تقع في القلب من عملية الإصلاح التشريعي – تعتمد على هذه الورقة التلخيصية، ومن ثم يجب صياغتها بحرفية شديدة بحيث تتناول المسألة المطروحة للإصلاح بشكل مُحدد وبلغة واضحة، فضلاً عن ضرورة إتاحتها أمام الجميع([8]).  

 البحث القانوني

لا شك أن البحث القانوني يعتبر أساس مرحلة التشاور التي تُعد جوهر عملية الإصلاح التشريعي. وبالتالي فنجاح هذه العملية يرتبط ارتباطاً وثيقة بإجراء بحث قانوني مُحكم ودقيق. ولا شك أن طريقة إجراء هذا البحث ومنهجيته ستعتمد بشكل كبير على الجهة القائمة عليه، والوقت المتاح، وموضوعه.

ويمكن القول بأن دوافع الإصلاح التشريعي متنوعة، منها زيادة الكفاءة والفعالية فيما يخص الموضوع محل البحث، أو القيام بإصلاح تقني معين، أو التعاطي مع تغير الأفكار والمواقف داخل المجتمع، أو الامتثال للالتزامات الدولية، أو التجاوب مع التطورات الاقتصادية والتكنولوجية، أو الاستجابة للتحولات الدستورية داخلياً.

وبلا شك فطبيعة البحث القانوني الذي تحتاجه عملية الإصلاح التشريعي سيتأثر بطبيعة الأهداف المرجوة. ولذلك فعملية الإصلاح التشريعي ليس محض بحث أكاديمي نظري، بل لها طابع عملي، غايته تطوير القانون وعصرنته.

وقد ساعد التطور التكنولوجي الحاصل في السنوات الأخيرة على تيسير البحث القانوني الذي تجريه الجهات المعنية بالإصلاح التشريعي، بل إنه يُمكن القول بأن وفرة المصادر البحثية القانونية بكثرة في الأونة الأخيرة زادت من حاجة هذه الجهات إلى بذل قدر أكبر من العناية أثناء إجراء البحث القانوني، إذ أصبح ضرورياً التأكد من صحة هذه المصادر قبل الأخذ منها أو النقل عنها.

وللقيام بالبحث القانوني المشار إليه لا بد للباحث من أن يضع يده على أخر ما وصل إليه التنظيم التشريعي للموضوع محل عملية الإصلاح التشريعي، وكذا تحديد المشكلات القائمة، والتصورات عن الحلول المُمكنة. وفهم كل ذلك يقتضي في كثير من الأحيان البحث في نواحٍ تاريخية، تتعلق بظروف نشأة التشريع ومراحل تطوره ودوافع هذا التطور. كما ينبغي التحقق من الحالة النهائية للتشريعي، ومعرفة المُعدل منه والملغي.

أيضاً لا بد لإتمام هذا البحث القانوني - على خير وجه - من النظر ليس فقط في القواعد القانونية بمفهومها الفني الصادرة عن السلطة التشريعية، بل ينبغي أيضاً البحث فيما وراء ذلك، سواء في اللوائح أو القرارات ذات الصلة بالتشريع موضوع عملية الإصلاح. فالمنظومة التشريعية بناء متكامل لا يمكن إصلاحها إلا بعد الاطلاع على مكوناتها المرتبطة.

ولا يمكن إغفال الدور الذي تلعبه أحكام القضاء أثناء عملية البحث القانوني، فأمام الباحث القانوني فرصة عظيمة لتكوين فكرة دقيقة عن المشكلات التشريعية في موضوع معين بالاطلاع على أحكام القضاء في هذا الموضوع. فأحكام القضاء هي المجال العملي الذي تبرز فيه أوجه القصور التشريعي بكل وضوح. فالحكم القضائي يفسر النص التشريعي ويشرحه ويطبقه ويعلق عليه أحياناً. بل إن بعض القضاة يحرصون في أحكامهم على لفت انتباه المشرع إلى عوار تشريعي معين، ويهيبون به التدخل لمعالجة هذا الخلل.

على أنه ينبغي الحرص أثناء البحث في أحكام القضاء على عدة أمور. منها مراعاة التدرج في المستوى القضائي، فمثلاً يُفضَّل بكل تأكيد أن يتركز البحث القانوني في أحكام المستويات العليا من القضاء. كما ينبغي البحث في مدى استقرار المحاكم على اتجاه معين في مسألة بعينها، وهل تم الرجوع عنه أو نقض المبدأ المُطبق، أو على الأقل حصره في حالات ضيقة. ولا حرج على الباحث في أن ينظر في تلك الأجزاء من الحكم التي لا تقر المبدأ، بل تناقش ما حوله obiter dicta، ولا حرج كذلك في أن ينظر الباحث في الآراء المُخالفة لرأي المحكمة dissenting opinions في الأنظمة القانونية التي تعترف بهذا الطريق من طرائق كتابة الأحكام:

“A case may be important for law reform purposes for what was said by the court, rather than what was decided.”

وثمة مصادر أخرى يستطيع أن يستعين بها الباحث القانوني، كالاطلاع على الموسوعات القانونية، وكتب القانون، والدوريات القانونية، وكتب تلخيص الأحكام، والقواميس القانونية. وقد يحتاج الباحث مراجعة مضابط جلسات البرلمان، وتقارير اللجان البرلمانية، والأوراق الوزارية، وتقارير لجان تقصي الحقائق، وبعض الكتب غير القانونية، أو حتى الصحف والجرائد اليومية.

وقد يجد الباحث القانوني ضالته بالبحث في النظم القانونية المقارنة، للاستفادة من خبرات الأخرين ومعرفة كيف عالج المشرع موضوع بعينه، والبحث في إمكانية تطبيق الحلول التي قدمتها النظم القانونية الأخرى في خصوص هذا الموضوع، مع مراعاة خصوصية كل نظام قانوني، والإطار الدستوري والنسق الاجتماعي الذي تباشر فيه الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي عملها([9]).

 الأبحاث التجريبية في مجالات غير قانونية

قد تجد الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي نفسها في حاجة إلى إجراء أبحاث علمية أو تجريبية في مجالات وتخصصات أخرى غير القانون كعلوم الاجتماع أو التركيبة السكنية أو الطب، من أجل سبر أغوار مسائل تتعلق بهذه التخصصات التي يتدخل المشرع لينظمها بقواعد قانونية عامة مُجردة.

وإحدى صور هذه الأبحاث غير القانونية ذات الأهمية بالنسبة لعملية الإصلاح التشريعي، القيام بتحليل العائد والكُلفة cost-benefit analysis بالنسبة لمشروعات الإصلاح التشريعي.

 التواصل مع أصحاب المصالح  Stakeholders

من الأمور بالغة الأهمية في هذه المرحلة من مراحل عملية الإصلاح التشريعي التواصل مع أصحاب المصالح، إذ يُمكن الاستفادة منهم أثناء مرحلة البحث المبدئي في المسائل موضوع الإصلاح التشريعي.

وعلاوة على ذلك، فالدفع بأصحاب المصالح في هذه المرحلة الأولية من عملية الإصلاح التشريعي، يساعد كثيراً في إشراكهم بعد ذلك في مرحلة التشاور، فكثير من هؤلاء – من غير القانونيين - ربما لا يدري أصلاً بوجود جهة قائمة على عملية الإصلاح التشريعي، ومن ثم فاستدعاء هؤلاء في مرحلة مُبكرة وجعلهم جزءاً من عملية البحث يعين كثيراً على الاستفادة منهم فيما بعد في مرحلة التشاور الأكثر أهمية.

كما أن ذلك يُساعد الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي في التعرف على الآثار العملية للتشريعات، وهو جانب يخفى على كثير من القانونيين المعنيين بعملية الإصلاح التشريعي([10]).

ولكن من جانب أخر ينبغي الحذر في التجاوب مع مواقف أصحاب المصالح؛ إذ ليس لديهم معرفة كافية بالإطار التنظيمي الذي تعمل فيه الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي، كما أن لديهم أهداف خاصة، وقد يترتب على إفساح المجال لهم الانزلاق لمصالح ضيقة أو التلون بلون سياسي معين، وهي أمور لا تناسب الطابع الفني غير السياسي الذي يصطبغ به عمل هذه الجهات.  

 مُخرجات عملية البحث

بمجرد الفراغ من تجميع المواد والبيانات اللازمة للقيام بعمليات البحث والدراسة السابقة، تبدأ عملية التحليل القانوني، للوصول لمقترحات وخيارات تشريعية يُمكن إفراغها في الورقة التلخيصية التي تُشكل الصورة النهائية للمسألة موضوع الإصلاح التشريعي، بحيث يبين منها – بوضوح وإيجاز - أوجه القصور التي دعت الجهة القائمة على الإصلاح التشريعي للتدخل، وكذلك التصورات التشريعية المُمكنة لعلاج هذا القصور، تمهيداً للمرحلة التالية من مراحل عملية الإصلاح التشريعي وهي مرحلة التشاور.

 مرحلة التشاور

على الرغم من أن عملية الإصلاح التشريعي تتضمن القيام بكثير من المهام التي قد لا تحتاج التشاور، مثل القيام بالتوحيد الشكلي للتشريعات، أو تقديم المشورة للوزارات في خصوص بعض الأمور، إلا أن مرحلة التشاور تظل هي جوهر عمل الإصلاح التشريعي.

  • أهمية مرحلة التشاور

يمكن استظهار ثلاثة أهداف لعملية التشاور:

أولا: التشاور حق للمواطنين.

التشاور حق لا يمكن إنكاره أو الانتقاص من أطرافه، والتشاور – وجوهره إشراك الجمهور في الشئون العامة - هو الذي يميز دولة القانون في النظام الديمقراطي، ويدمغ عملية صنع القرار بها بالشفافية المطلوبة. وهذا التشاور يعني منح المواطنين ممن سيطبق القانون عليهم فرصة أن يكون لهم كلمة في عملية صناعة القانون، فوق دورهم الطبيعي كناخبين:

“As Sachs J said in the South African Constitutional Court:

All parties interested in legislation should feel that they have been given a real opportunity to have their say, that they are taken seriously as citizens and that their views matter and will receive due consideration at the moments when they could possibly influence decisions in a meaningful fashion. The objective is both symbolical and practical: the persons concerned must be manifestly shown the respect due to them as concerned citizens, and the legislators must have the benefit of all inputs that will enable them to produce the best possible laws.”

ثانيا: التشاور يفيد عملية الإصلاح التشريعي.

على الصعيد العملي، فإن إجراء عملية تشاور عالية الجودة أمر ضروري للقيام بعملية إصلاح تشريعي عالية الجودة أيضاً. فهذا التشاور يقدم مزيد من المعلومات ومزيد من الرؤى مما يُساعد على إنجاح مشروعات الإصلاح التشريعي.

فالإصلاح التشريعي لا يستهدف تحسين مادة التشريع في صورته المجردة، بل يضع في اعتباره مساره التطبيقي في الواقع العملي. فأياً كانت جودة عملية الإعداد لمرحلة التشاور، أي مرحلة ما قبل التشاور، تظل مرحلة التشاور هي المحور الأساسي التي يمكن من خلاله الوقوف على كثير من الحقائق التي تتعلق بمجال تطبيق القانون فعلاً:

“Law reformers, however well informed and skilled, do not have a monopoly on insight. As such, the gleaning of new information and new insights is a key advantage of consultation on a law reform project.”

بالإضافة لما تقدم، فإن عملية التشاور تساعد على جعل الجهة القائمة على عملية الاصلاح التشريعي أكثر احتكاكاً بمواقف مؤيدي ورافضي مقترحات الاصلاح. وتجدر الإشارة إلى أن التعرف على مواقف مُعارضي الاصلاح بالذات له أهمية خاصة؛ فالتعرف على هذه المواقف بهدف الوصول لحلول وسط حول نقاط الخلاف يساعد على الوصول لنتائج تزداد فرص تبنيها مستقبلاً.

فلا يجب أن يُنظر لعمل الجهات القائمة على الإصلاح التشريعي على أنه مجرد إصلاح سياسات معينة، بل يجب استيعاب ديناميكة التأثير داخل المحيط الذي تعمل فيه هذه السياسات.

ثالثا: التشاور يساعد على إنجاح عمل الجهة القائمة على الإصلاح التشريعي، ورفع قيمته.

لا شك أن إجراء عملية تشاور عالية الجودة يعزز من سمعة الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي، ويزيد من الثقة فيها من جانب المسئولين والوزراء ورجال البرلمان، بما يزيد من فعالية أنشطتها في الأخير.

أ- حدود عملية التشاور والقيود عليها.

لا يجب أن تحدد عملية التشاور مصير عملية الإصلاح التشريعي، ولا يجب أن تُشكل مرئيات هذا التشاور الموقف النهائي لهذه العملية. ففي بعض الأحيان لا تكون عملية التشاور بناءة بما يكفي([11]).

والتشاور ليس عملاً انتخابياً، فحتى مع وجود بعض الأطراف التي لها رؤى معينة في خصوص مقترحات الإصلاح التشريعي، يظل العبء الأخير واقعاً على الجهة القائمة على الإصلاح التشريعي لترشيد هذه الرؤى وضبطها في إطارها السليم بشكل موضوعي. وهذه الجهات عندما تُجري عملية التشاور لا تنفض يدها من مسئوليتها بهدف إلقاءها على أطراف أخرى، بل تستهدف القيام بدورها العام في أفضل صورة ممكنة.

ب- آلية التشاور

قد يتم التشاور إما كتابة written consultation وإما وجهاً لوجهactive dialogue. والتشاور كتابة قد يكون عن طريق تداول ورقة واحدة شاملة لكافة المسائل المطروحة لعملية الإصلاح التشريعي، وقد يكون من خلال عدة أوراق عبر عدة مراحل داخل إطار التشاور. وقد يتم التشاور وجهاً لوجه من خلال العمل بنظام المجموعات الاستشارية advisory groups أو مجموعات العملworking groups . وقد يتم هذا التشاور بشكل مباشر من خلال عقد لقاءات أو تنظيم فعاليات وجلسات استماع تشاورية.

وفي كل الأحول فإنه مما يزيد من ثراء وتكامل مرحلة التشاور إشراك أصحاب المصالح في المراحل السابقة على مراحل التشاور، لإعدادهم بشكل جيد حتى يُمكن الاستفادة منهم بأكبر قدر ممكن أثناء مرحلة التشاور.

ج- مع من يتم التشاور - الجمهور

يجب أن يسبق عملية التشاور اختيار من يتم التشاور معهم، وهو ما يقتضي إجراء نوع من التوازن بين إشراك جمهور معين ذي خبرة مستهدفة، وبين الجمهور العام. ولا شك أن مما يضعف عملية التشاور أن يقتصر الأمر على مجموعة مُنتقاة بشكل حصري:

“Consultation, except in extreme circumstances, should be public, in that any member of the public should be able to take part, should they so choose.”

 

وفي هذا السياق فإن كافة المشاركات مُرحب بها أياً كان مصدرها، علماً بأن وجود عدد كبير ممن يتم التشاور معهم قد يزيد من صعوبة التفاعل مع جميع هذه المشاركات. مع التأكيد على أن مشاركات أولئك المعنيين بشكل أكبر بالموضوع ستكون محط اهتمام الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي.

ويمكن في هذا الصدد إعداد قوائم بأصحاب المصالح ممن يمكن التشاور معهم من خلال فتح قنوات إتصال مع الجهات الحكومية ذات الصلة بموضوع الإصلاح التشريعي محل التشاور، لإمداد الجهة القائمة على الإصلاح التشريعي بكيفية التواصل معهم.

د – بدء عملية التشاور

تبدأ عملية التشاور بنشر أوراق التشاور بين أصحاب المصالح وعموم الناس، وذلك إما عن طريق مطبوع أو باستخدام التقنيات الحديثة (شبكة الإنترنت). ولا يوجد ما يمنع من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي([12])، أو الاستعانة بالصحافة الإعلام، بهدف الوصول لأوسع قاعدة ممن يمكن التشاور معهم.

وجلسات التشاور قد تُتاح للعامة، وقد تكون سرية، وقد يُتاح الإفصاح عن مُخرجات هذه الجلسات شريطة الإبقاء على شخصية أصحاب المُداخلات مجهولة the Chatham House Rule.

ولا شك أن تنظيم فعاليات التشاور أمر مُكلف مادياً ويرهق ميزانية الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي، لذلك جاز أن تعهد هذه الجهة إلى منظمات أو إدارات أخرى بتنظيم هذه الفعاليات، مع الوضع في الاعتبار أنه ينبغي ممارسة الكثير من الحذر إذا ما ترك أمر هذا التنظيم لبعض المنظمات التابعة لأصحاب المصالح لحساب الجهة القائمة على الإصلاح التشريعي، لأن تنظيم هذه الفعاليات بهذه الطريقة إذا لم تُوضع له حدود معينة سيكون مظنة المحاباة والتواطؤ لصالح هذه المنظمات.

والأمر يختلف تماماً إذا ما كانت الفعالية تابعة منذ البداية لمنظمة أصحاب المصالح، وتم توجيه الدعوة للجهة القائمة على الإصلاح التشريعي للحضور وسماع وجهة نظر أصحاب المصالح، فقط كضيف مدعو للحضور. ويُفضل في مثل هذه الظروف أن تعلن الجهة القائمة على الإصلاح التشريعي أنها منفتحة على أي دعوات مماثلة من أية أطراف أخرى ذات صلة بالمشروع محل عملية الإصلاح التشريعي.

ولكن تبقى الأفضلية في كل الأحوال أن تقوم الجهة القائمة على الإصلاح التشريعي بتنظيم الفعاليات وعقد الجلسات التشاورية اللازمة بمعرفتها هي، إذ يتيح لها ذلك التحكم في شكل التنظيم، ومحتواه، ومن تتم دعوته، وكذا التوازن بين تمثيل أصحاب المصالح المتضاربة. بالإضافة إلى تمكين هذه الجهة من القيام بهذا التنظيم وفقاً للجداول التي تضعها هي لإجراء عملية التشاور.

وقد يحتاج الأمر القيام بنوع خاص من المشاورات، هو مشاورات الرصد observational consultation، أو القيام بزيارات ميدانية، وذلك بقصد فهم طبيعة بعض الأنشطة عن قرب والاحتكاك بالمجتمع الذي يُراد إعادة تنظيم ظروف العمل به تشريعياً. فمثل هذه الزيارات قد تكون ضرورية في الأحوال التي لا يتصل فيها الأمر بمسائل قانونية بحتة يمكن التباحث حولها وحسمها من خلال النصوص القانونية المجردة، بل تحتاج التفاعل المباشر مع أصحاب المصالح وفي مواقع عملهم. على أنه يجب الحرص على ألا  يؤثر هذا النوع من الرصد أو الزيارات الميدانية على أعضاء الجهات القائمة على الإصلاح التشريعي بحيث يطغى بشكل كبير على الاعتبارات الأخرى التي لا يجب إغفالها عند إعادة التنظيم التشريعي للنشاط المعني.

ويمكن القيام بتسجيل وقائع المشاورات التي تُجرى بين الأطراف المختلفة، مع مراعاة أن القيام بذلك قد لا يكون ملائماً في كل الأحيان، كما أن مراجعة هذه التسجيلات قد يضيع بسببه الكثير من الوقت والجهد.

وفي بعض الأحيان يكون من الصعب الوصول لبعض أطراف عملية التشاور، فبعض أصحاب المصالح لا تنتظمهم مؤسسات تمثلهم بشكل رسمي مُنظم، هنا يجب بذل جهد أكبر للتواصل معهم، لئلا تميل عملية التشاور لصالح أصحاب المصالح الأقوى والأوسع نفوذاً والأطغى حضوراً. ولذلك السبب أيضاً ينبغي القيام بكافة التسهيلات لضمان تيسير تواصل كافة الشرائح المعنية مع الجهة القائمة على الإصلاح التشريعي لسماع أقوالهم ووضع مصالحهم في الاعتبار.

وبانتهاء عملية التشاور تبدأ الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي في تلقي الردود على المسائل التي أثيرت في مرحلة التشاور. وهذه الردود قد تأتي في صورة خطابات مكتوبة أو ردود عبر وسائط إلكترونية. وقد تأتي هذه الردود في الوقت المحدد لها بنهاية عملية التشاور، وقد يتأخر ورود الرد لما بعد انتهاء الميعاد المُحدد لتلقي الردود والإجابات. وكثيراً ما تقبل الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي الردود المتأخرة لأصحاب المصالح، بل قد تستجيب لطلبات مد المهلة المُحددة للرد، وقد تقوم من تلقاء نفسها بمد هذه المهلة إذا ما جدت ظروف تحتم الانتظار قليلاً قبل قفل باب التشاور.

ويُعد تحليل ودراسة الردود والإجابات التي تلقتها الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي هو الخطوة التالية على عملية التشاور، تمهيداً للبدء في مرحلة أخرى من مراحل عملية الإصلاح التشريعي هي مرحلة صوغ السياسات بناء على ما أفرزته الدراسة والتحليل لمُخرجات عملية التشاور.

 مرحلة صُنع السياسات

ما إن تنتهي عملية التشاور، فإنه على الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي وضع اللمسات الأخيرة على ما ستقوم برفعه من توصيات، بعد أن يكون قد تبلور لديها نتائج ومُخرجات عملية التشاور. وفي بعض الأحيان لا يحتاج الأمر القيام بمزيد من العمل، وفي أحيان أخرى قد يتطلب الأمر القيام بتحليل إضافي للنتائج والمُخرجات المُشار إليها.

فبالنسبة لبعض المشروعات، فإن المُخرجات المكتوبة التي تمخضت عن عملية التشاور تمثل خُلاصة المطلوب، بالذات في بعض المسائل الفنية المُحددة، وفي هذا الفرض فلا حاجة للقيام بمزيد من البحث والتحليل، اكتفاءً بما انتهت إليه عملية التشاور.

إلا إنه في أغلب الحالات يحتاج الأمر القيام بنوع من أنواع التقييم والتحليل لمُخرجات عملية التشاور. وقد يتم إعداد ورقة شاملة تتضمن تحليلاً لمُخرجات عملية التشاور. وفي بعض الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي لا تتضمن هذه الورقة سوى تعداد للأصوات المؤيدة والمعارضة لتبني اختيار مُعين.

وتقوم الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي بإعداد قرار نهائي بما انتهت إليه من توصيات، تمهيداً لإصدار التقرير النهائي المنسوب لها.

تحليل العائد والكُلفة cost-benefit analysis:

يُعد تحليل العائد والكُلفة cost-benefit analysis أداة نافعة جداً بالنسبة للمسئولين عن عملية الإصلاح التشريعي تعينهم على الوصول إلى قرار نهائي بخصوص ما يمكن التوصية به من سياسات. فهذا التحليل يمكن أن يُقدم حُججاً مُقنعة، لكن له أيضاً بعض المثالب.

فهذا التحليل يُساعد على تجلية الكثير من الأمور أثناء عملية صنع القرار، عن طريق تحليل توازني بين مزايا وعيوب تبني وجه معين من أوجه السياسات، ويُساعد كثيراً على ترجيح كفة اختيار معين على غيره من الاختيارات. بل إن الحكومة نفسها قد تتطلب القيام بإجراء مثل هذا التحليل بالنسبة لبعض الاقتراحات التشريعية:

“Cost–benefit analysis weighs up the anticipated costs and benefits to society, to calculate the net benefit; that is, benefits minus costs. Its purpose is two-fold: to determine whether or not a change is justified; and to provide the basis for comparing different options.”

لكن ثمة إشكالية تخص إجراء تحليل العائد والكُلفة تتمثل في أن هذا التحليل يعتمد على قياس التأثير المالي لاختيار معين من منظور اقتصادي صرفmonetisation ، والتقييم من هذا المنظور فقط قد لا يلائم كافة السياقات، فمثلاً عند تحديد مدى جدوى تقرير أهلية الترافع في بعض القضايا الجنائية، فإنه يمكن من منظور اقتصادي تقييم ما قد يترتب على هذا الإجراء من آثار بالنسبة لوقت القضاة، لكن لا يمكن تقييم ما قد يترتب على السماح بهذا الإجراء من آثار بالنسبة لليقين القانوني أو زيادة الثقة في النظام القضائي دون إجراء نوع من البحث الاجتماعي.

فضلاً عما تقدم فإن التحليل السابق يتم عبر فترات مختلفة، وبعض العوائد والتكاليف قد تحصل فوراً، كما هو الحال بالنسبة لحساب التكاليف اللازمة للحصول على بعض السلع أو الخدمات لتنفيذ سياسة معينة، أما العوائد فغالباً ما تكون مستقبلية. ولضبط التكاليف والعوائد التي تحدث عبر فترات مختلفة، فثمة أسلوب يُعرف بالتخصيم discounting، وهذا الأسلوب يسمح بتحويل المنافع الخالصة إلى قيمة خالصة حاليةnet present value . والقاعدة العامة لتحديد تبني قرار معين هو اختيار السياسة ذات القيمة الخالصة الحالية الأعلى.

وبعض الجهات القائمة على الإصلاح التشريعي ليس لديها الخبرة أو القدرة على القيام بمثل هذا التحليل بكفاءة عالية. ولذلك ينبغي الامتناع عن الانخراط في إجراء مثل هذا التحليل إذا لم تتوافر أدواته اللازمة.

مزايا ومثالب دراسات العائد والكُلفة:

يُمكن القول بأن دراسات العائد والكُلفة تضفي نوعاً من الشفافية على عملية صناعة القرار، وذلك عن طريق تحديد الأساس الذي تُبني عليه القرارات بالرجوع للتكاليف التي يتحملها والعوائد التي يجنيها أصحاب المصالح. وأهم من ذلك أن هذه الدراسات تعين على تحديد أفضل أوجه إنفاق الموارد العامة.

غير أن الاعتماد على مثل هذا النوع من الدراسات لا يخلو من بعض الانتقادات. فثمة مخاوف  تتعلق بالأساس النظري لتحليل العائد والكُلفة. فالبعض يتساءل عن النطاق الذي يمكن من خلاله – عملاً بهذا التحليل – القيام بتقييم متوازن للتكاليف في مقابل العوائد. ويرتبط بذلك الصعوبات المرتبطة بفكرة تحويل المنافع المُتحققة (العوائد) لقيمة مالية وذلك بالنسبة لبعض العوائد غير ذات القيمة المالية الملموسة.

فضلاً عما سبق، فإنه إذا كان من السهل قياس التكاليف بدقة في الوقت الحالي، فإن قياس العوائد بذات الدقة مُستقبلاً أمر يصعب توقعه بدقة، وهذه الصعوبة قد يبرز معها جانب التكاليف في مواجهة العوائد خلافاً للحقيقة:

“It is often relatively easy to ascertain costs, particularly short-term costs, because these can be read off from an understanding of the status quo. Benefits, particularly longer term benefits, may be much harder to evidence, because they inevitably involve a higher degree of speculation. The danger is therefore that a cost–benefit analysis may be skewed to exaggerate short-term costs and underestimate long-term benefits.”

 

باختصار، فإن التركيز الشديد على الجانب المالي من عملية تقييم الأثر، وغض الطرف عن العناصر الأخرى الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والسياسية أمر قد يضعف من حجة القائلين بضرورة الاعتماد على دراسات العائد والكُلفة بشكل كبير. وأحيان تطلب الحكومة أن يصحب الاقتراحات التشريعية أو غيرها من المُبادرات القيام بالعديد من دراسات تقييم الآثار، للتأكد من أن النتائج المرجوة تم اعتبارها أثناء عملية صناعة القرار، كدراسة تأثير قرار معين على مبدأ المساواة، وحقوق الإنسان، أو على المناطق القروية، وهكذا.

من يقوم بدراسات تقييم الأثر؟

ربما لا تكون الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي مُضطرة للقيام بدراسات تقييم الأثر، وتترك الأمر للجهة الحكومية المسئولة إذا ما تبنت اقتراحات الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي. لكن ثمة أسباب وجيهة قد تدعو الأخيرة للقيام بمثل هذه الدراسات.

فمثلا قد ترى الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي أن القيام بمثل هذه الدراسات قد يشجع الحكومة على تبني توصياتها. وقد ترى هذه الجهة أنها الأقدر على القيام بمثل هذه الدراسات بحكم أنها التي رافقت المشروع منذ أن كان فكرة حتى استوى على سوقه في صورة توصيات. وعلى العكس قد لا ترى هذه الجهة ضرورة القيام بمثل هذه الدراسات بنفسها، وفي هذه الحالة قد تعرض المساعدة على إجراء هذه الدراسات على الجهة الحكومية المختصة.

مشروعات القوانين Bills:

يميل عدد قليل من الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي إلى إرفاق مشروع قانون بتقريرها الأخير الذي يتضمن توصياتها النهائية. وقد تقوم بذلك بشكل اعتيادي أو بشكل انتقائي.

وقد يقوم بعملية صياغة مشروع القانون إما بعض أعضاء الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي أو بعض المتخصصين بصياغة التشريعات الذين تنتدبهم هذه الجهة.

ولا شك أن هذا المسار يسهل كثيراً من عملية تحول التوصيات إلى قانون، ويشجع الحكومة على تبني هذه التوصيات.

غير أن القيام بهذا الدور مُكلف، فانتداب بعض المتخصصين في فن الصياغة التشريعية عملية مُكلفة. كما أنه يستهلك الكثير من الوقت، ويؤثر من ثم على فرصة المشروع في الفوز باهتمام الحكومة، فمما يقلل حماس الحكومة لتبني مشروع معين تطاول الفترة السابقة على عرضه)[13](.

وغالبية الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي لا تقوم بهذا الدور، حيث يقتصر عملها على رفع توصياتها للحكومة دون إرفاق هذه التوصيات بمشروع قانون. غير أن هذه الجهات قد تشترك في عملية صياغة التشريع من خلال مساعدة الحكومة في عملية الإعداد لمشروع القانون.

ويحدث أن ترفق الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي بمشروع القانون بعض الملاحظات الشارحة أو المذكرات الإيضاحية فيما تعلق بكل نص من نصوص المشروع، وذلك بهدف مساعدة الحكومة على فهم التوصيات والنصوص. وغالباً ما يتطلب المشرع إرفاق تلك الملاحظات والمذكرات بمشروع القانون عند تقديمه.

والهدف الأساسي من تلك الملاحظات والمذكرات هو مساعدة المشرع، لكن قد يكون هناك هدف إضافي متمثل في تيسير فهم الكافة للنصوص المقترحة. ولذلك يجب أن تُصاغ هذه الملاحظات والمذكرات بصورة واضحة وبدون أن تتضمن تعقيدات فنية. غير أن هذا لا يمنع استخدام بعض المواد التوضيحية كالأمثلة والرسوم البيانية التي لا تظهر في التشريعات.

وهذه الملاحظات الشارحة أو المذكرات الإيضاحية قد تُستخدم من جانب القضاة في فهم النصوص التشريعية؛ باعتبار أنها الإرهاصات الأولى لصدور التشريع.

وبمجرد أن تتلقى الحكومة من الجهة القائمة على التشريع التقرير النهائي ومشروع القانون، فإنها قد ترى إدخال بعض التعديلات. عندئذ قد تطلب من فنيي الصياغة التابعين لها إدخال التعديلات المطلوبة. وهؤلاء الفنيون قد يكونوا هم نفس من قاموا بالصياغة الأولى للمشروع في الجهة القائمة على الإصلاح التشريعي، لكنهم في هذه المرحلة يأتمرون بتعليمات الحكومة.

بعد ذلك يتم تقديم المشروع النهائي للمشرع لمناقشته تمهيداً لسنه، وعلى كل حال تعتبر الجهة القائمة على الإصلاح التشريعي هذا المشروع – أو على الأقل الجزء الأكبر منه – ثمرة جهدها ونتاج عملها.

***

ما سبق كان إطلالة سريعة على مسار عمل الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي في العديد من البلدان([14]). ولا شك أن منتوج هذه العملية يختلف باختلاف كثير من العوامل ذات الصلة بالبيئة القانونية والنظم الدستورية وكذا الظروف الاجتماعية والأوضاع السياسية داخل كل دولة، لكن مسار هذه العملية يُفترض ألا يختلف اختلافاً كبيراً وفقاً لهذه المتغيرات.

الهوامش

([1])

“The term ‘law revision’ is normally used to refer to statutory amendments that make no change at all to the substance of the law. They make the law more accessible and simpler to understand, but without changing its meaning.”

([2])

“Consolidation, in particular, is the bringing together of statute law in a number of different instruments into a single, new, legislative instrument. Consolidation re-packages, but does not substantively change, the law.”

([3]) يُعد التقنين الموضوعي للقانون أقرب الاصطلاحات لفحوى فكرة الإصلاح التشريعي، إذ يتضمن دمج التشريعات في وثيقة واحدة باعتبار موضوعها، فضلاً عن إعادة صياغتها وتطويرها إلى جانب دمجها، لكنه على الأجح مرحلة سابقة عليه، إذ يغلب عليها الاهتمام بدمج التشريعات ذوات الصلة وتحسين صياغتها أكثر من صبها في قالب متطور واحد في ضوء فلسفة واحدة.

([4])

“Some law reform agencies also undertake projects to repeal obsolete legislation. Only statutes that have no possible application are proposed for repeal, so again this activity does not change the law.”

([5]) غير أن ما سبق لا يعني أن عملية الإصلاح التشريعي تسير بهذه السلاسة، بحيث لا يمكن أن تثير أية خلافاتnon-controversial ، بل العكس صحيح، فهذه العملية وما تنطوي عليه من إعادة ترتيب للأولويات التشريعية، وتطوير للأفكار القانونية، وما تُجريه من تعديل في كثير من المفاهيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لا يتصور أن تلقى إجماعاً تاماً حتى بين أولئك القائمين على هذه العملية.

([6])

“The first stage of a project is usually the researching and drafting of a first stage document, for use in consultation. These documents provide background material, descriptive information, preliminary analysis or an initial scoping of the law reform task at hand.”

([7])

“The nomenclature of first stage documents varies between law reform agencies globally, and indeed within the same agency over time. The documents are variously referred to as research papers, background papers, working papers, preliminary papers, information papers, consultation papers and issues papers. Although they may vary slightly in content, form and focus, they all serve the purpose of providing background material on the issue under review, descriptive information about the law as it stands, preliminary analysis and thinking about issues or problems raised, or an initial scoping of the law reform task at issue.”

([8])

“First documents provide a key starting place in this process of community engagement and it is important that they are well researched, clearly written, accessible and set the right tone for the inquiry going forward in whatever form they take.”

([9]) لا مانع من الاستفادة من جهود بعض الخبراء القانونيين، العاملين مثلاً في المجال الأكاديمي، لمعاونة الجهة القائمة على عملية الإصلاح التشريعي في إجراء هذه الأبحاث المقارنة.

([10])

“[L]aw reformers will be capable of researching and understanding the law using their own and allied skills. What they will not necessarily understand is the ‘feel’ of the field. How does the market, or the public service, actually work?”

([11])

“Not all consultation is constructive. In extreme cases, the reaction of consultees, or one particularly important consultee, can be so negative that it threatens the whole project.”

([12])

“Some law reform agencies have a presence on social media such as Twitter and Facebook. These allow the agency to disseminate information directly to the public. The Law Commission for England and Wales has more than 12,000 followers on Twitter, for instance. It is also possible for a law reform agency to establish a Twitter feed and Facebook page dedicated to a particular project. These avenues may prove a useful way of keeping stakeholders and consultees in touch with a project as it develops. As yet, they have not been used as a conduit for responses.”

([13])

“It is a considerable advantage to have drafters co-located with the law reform agency, allowing easier and more frequent face-to-face discussion. The process will usually lead to a process of refinement of the policy and the recommendations, on the one hand, and of the draft legislation, on the other.”

([14]) تمت الاستعانة في إعداد هذه الإطلالة بـ

Commonwealth Secretariat, Changing the Law: A Practical Guide to Law Reform, Commonwealth Secretariat, London, (2017).