الأثر المستقبلي للحكم الدستوري

المستشار د. عبدالعزيز سالمان

الخميس 15 فبراير 2024

* الكاتب: المستشار الدكتور عبدالعزيز محمد سالمان - نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا

** تنشر "منشورات قانونية" هذه الورقة بإذن خاص من الكاتب

تمهيد وتقسيم:

لا تثار فكرة أثر الحكم، بمعنى تحديد التاريخ الذى تمتد إليه آثار الحكم – عادة- إلا بالنسبة للأحكام الصادرة عن القضاء الدستورى وبصفة خاصة " الأحكام الصادرة بعدم الدستورية وهو ما يطلق عليها" النطاق الزمنى للحكم الدستورى.

ويقصد بفكرة النطاق الزمني لتنفيذ الأحكام الصادرة فى الدعاوى الدستورية تحديد التاريخ الذى تمتد إليه آثار الحكم، والوقوف على ما إذا كانت هذه الأحكام تنفذ بالنسبة للمستقبل فقط، أم يكون لها أثر رجعى فى بعض الحالات، وما هو الحال بالنسبة للأحكام التي تثير مشكلات كبيرة فى حالات تنفيذها الفوري، مشكلات تمس كيان الدولة ككل أو تمس مصلحة جوهرية يتأثر بها قطاع كبير من قطاعات الدولة....... وهي حالات لا نستطيع الوقوف عليها أو حصرها قبيل صدور الحكم.  

وبطبيعة الحال، فإن هذه الفكرة لا تثور إلا بالنسبة للأحكام الصادرة بعدم الدستورية، باعتبارها أحكامًا كاشفة للعوار الذي ألم بالتشريع، أما ماعدا ذلك من أحكام سواء كانت صادرة بالرفض، أو بعدم القبول فليس لها نطاق زمني لتنفيذها، لأنها لا تستحدث جديدًا في الواقع القانوني ولا تتعرض لمراكز قانونية بالتغيير، وإنما تبقي الوضع كما كان قبل صدور الحكم.

وكل ما تفعله هو التأكيد على دستورية النص، بحيث يمتنع الطعن عليه مرة أخرى وفقًا لذات النطاق المحدد في الحكم.

نقصر نطاق البحث حول فكرة الأثر المستقبلي: ونتعرض قبلها لطبيعة الحكم الدستورى، وذلك من خلال نقطتين جوهرتيين كلٍ في مبحث مستقبل.

المبحث الأول: طبيعة الحكم الدستورى.

المبحث الثانى: إطلالة على الأثر المستقبلي للحكم الدستورى.

-----------------------------------------------------------------------------------------------------

المبحث الأول:

طبيعة الحكم الدستوري:

ثارت مغالطات وأقاويل كثير حول طبيعة الحكم الدستوري الصادر من المحكمة الدستورية العليا، وخاصة بعد صدور القرار بقانون رقم 168 لسنة 1998 بتعديل المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979، وذهب البعض([1]) إلى أن طبيعة هذا الحكم تأبى أن يكون  له أثر رجعى، إذ أنه منشئ لحالة عدم الدستورية، وليس كاشف عنها . وأن القول بالأثر المباشر لحكم الدستورية هو مجرد تطبيق طبيعي للقاعدة المستقرة فى جميع النظم القانونية في العالم من حيث أثر الحكم القضائي وهو الأثر الفوري وعدم الرجعية [2]. وهو قول غير صحيح على إطلاقه وسوف نفنده في موضعه.

ويؤكد البعض – في تعليقه على القرار بقانون 168 لسنة  1998الذى عدلت بمقتضاه المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا – أن هذا القرار يتفق مع صحيح الدستور وقانون المحكمة الدستورية العليا رقم 48 لسنة 1979، وأن المحكمة الدستورية العليا في مصر خلقت لنفسها اختصاصًا ليس موجودًا في الدستور أو في قانونها، وهو أن أحكامها كاشفة للحق وليست منشئة. وبالتالي فإن أحكامها تصدر بأثر رجعي منذ صدور القانون المحكوم بعدم دستوريته، فلو افترضنا أن نصًا قانونيًا – كما يذهب هذا الرأى – صدر منذ خمسين عامًا، فإنه يترتب على هذا النص القانوني مراكز قانونية وحقوق مكتسبة ظل أصحابها يتمتعون بها خمسون عامًا، وإذا صدر حكم بعدم الدستورية لهذا النص القانوني، فإنه يلغي المراكز القانونية والحقوق المكتسبة لمدة خمسين عامًا، وذلك طبقًا للأثر الرجعي الذى خلقته المحكمة لنفسها دون سند من الدستور أو القانون[3].

ويضيف هذا الرأى أنه من المعروف جيدًا في فقه القانون والفقه الدستوري أن الأثر الرجعى لأحكام المحكمة الدستورية العليا لم يرد فى الدستور المصري، ولم يرد فى قانون المحكمة الدستورية العليا رقم 48 لسنة 1979، وهو اختصاص خلقته المحكمة لنفسها دون سند من الدستور أو القانون، حيث أن التعديل الدستوري الصادر فى 30/4/1980 نظم المحكمة الدستورية – هكذا يقول صاحب هذا الرأى[4] - فى المواد من 174 إلى 178 ولم يرد بهذه النصوص أي نص عن الأثر الرجعي لأحكام المحكمة الدستورية العليا. فنص المادة 175 من الدستور لم يتحدث عن الأثر الرجعي لأحكام المحكمة الدستورية وترك للقانون تحديد اختصاصات المحكمة، ولم يرد في مواد القانون أي إشارة للأثر الرجعي، وينتهي هذا الرأي إلى أن تطبيق أحكام المحكمة الدستورية بأثر رجعي في جميع الحالات مخالف للدستور وللقانون[5].

إن مثل هذا الرأي وأمثاله[6]، هو الذى دعانا إلى البحث في طبيعة الحكم الدستوري وما إذا كان كاشفًا أم منشئًا، على ضوء تحديد طبيعة مهمة القضاء بصفة عامة، وما إذا كان يقوم بخلق الحقوق أم أن دوره – فى الأغلب الأعم من الحالات – يقتصر على الكشف عنها وتقريرها لأصحابها وعلى ضوء المنطق القانوني المجرد وما تفرضه وظيفة المحكمة الدستورية العليا فى حماية الشرعية الدستورية.

فى البداية نقرر ونؤكد أن الرأى المجمع عليه بين الفقه والقضاء، أن الأحكام القضائية كاشفة للحقوق لا منشئة لها.

وإذا كان القانون الروماني يعتبر – بالنسبة لمعظم قوانين الدولة الحديثة – المصدر التاريخي الذي أخذت عنه هذه القوانين، والأصل الذى تفرعت عنه فإن المبدأ المستقر – في القانون الروماني – أن الأحكام القضائية كاشفة عن الحق، وليست منشئة.

وفى ذلك يؤكد الأستاذان د. محمد عبدالمنعم بدر، د. عبدالمنعم البدراوي[7]. أنه: "من المبادئ الثابتة في القانون أن الأحكام كاشفة للحقوق لا منشئة لها.

ويؤكد فقيه المرافعات الكبير الدكتور محمد حامد فهمى[8]، أن الأصل فى الأحكام أنها مقررة للحقوق وليست منشئة لها، لأن المحكمة إذ تقضي في نزاع إنما تقرر الحقوق المتنازع عليها بين الخصوم أي تبين ماذا كان حق كل منهم فى شأن ما تنازعوا عليه ولا تنشئ لهم حقوقًا جديدة في الواقع.

فإذ قضت المحكمة بتقرير إلتزام، فإنما هي تقرر وجود حق الدائن فيه ولا تستبدل به حقًا جديدًا متولدًا عن قضائها، ولذلك يبقى للحق القائم أصلاً سببه ووصفه، ويحتفظ بآثاره وبالتأمينات الملحقة به، وإذا قضت على العكس – برفض دعوى الدائن فإنها بذلك تقرر حالة قانونية موجودة، وهي انعدام الحق الذى يزعمه، وبذلك تزول كل الآثار التي كانت ترتبت على رفع الدعوى.

ويقول غالبية الشراح: إنه متى كان الحكم مقررًا للحق، رجعت آثاره إلى الماضي أي إلى وقت رفع الدعوى على الأقل، حتى لا يضار المحكوم له بسبب تأخير الفصل في دعواه الناشئ من منازعة خصمه له أو من بطء إجراءات التقاضي، وحتى يستفيد من الحكم الصادر له نفس الفائدة التي كان يحصل عليها لو أن خصمه سلم له بحقه، أو لو أن المحكمة فصلت فى دعواه يوم رفعها[9].

ويؤكد في موضع آخر أن الأصل في الأحكام أنها تقرر الحقوق وقلما تكون الأحكام المدنية والتجارية منشئة للحقوق[10].

فوظيفة القاضي – طبقًا للاتجاه السائد في الفقه – تنحصر أساسًا في حسم الخصومات، وذلك بالكشف عن الحق وإسناده لصاحبه وتوفير الحماية له بتوقيعه الجزاء القانوني على من يتبين أنه اعتدى عليه، وأخل - بهذا الفعل – بقاعدة القانون[11].

وعمل القاضي في فض الخصومات، إنما هو عمل مركب – إذ ينطوي بادئ ذي بدء على عملية ذهنية – تنحصر في التعرف على الوقائع وتطبيق حكم القانون عليها للوصول إلى نتيجة منطقية هي تقرير الحق واسناده لصاحبه وهي عملية لا تتدخل فيها إرادة القاضي، بل إنه محكوم فيها بالمنطق وبقاعدة القانون . وبالوقائع التي تثبت لدية، وكل هذه أمور لا دخل له في تكوينها.

وإنما تبدأ إرادة القاضى فى الظهور بعد كشف الحقيقة، إذ يقرن تقريراته بقرار يصدره ينطوي على أمر أو نهي، أى على إلزام أحد الخصمين بأداء الحق إلي صاحبه، أو باحترام ذلك الحق وعدم التعرض له، ولا يكتمل حكم القاضي إلا إذا اشتمل على ركن الإلزام، وإلا لتمخض عن مجرد رأى غير ملزم ولا قوة له، ولتجرد بذلك من معناه ومن قيمته[12].

وفى التأكيد على الطبيعة الكاشفة للحكم القضائي، يؤكد الأستاذ الدكتور أحمد أبو الوفا: إن الأصل أن الأحكام مقررة للحقوق وليست منشئة لها، لأن وظيفة المحكمة هي أن تبين حق كل خصم بالنسبة لموضوع النزاع، فهي لا تخلق للخصوم حقوقًا جديدة. فالحكم بوجوب تنفيذ التزام هو حكم مقرر لحق الدائنين، ولا ينشئ له حقاً جديدًا، لذلك يبقى للحق القائم أصلاً سببه ووصفه، ويحتفظ بكافة آثاره وبالتأمينات الملحقة به[13].

أما الحكم برفض الدعوى، فهو أيضًا تقرير انعدام حق الدائن، كذلك الحكم باعتبار الدعوى كأن لم تكن هو حكم مقرر لحالة قانونية موجودة، وهي انعدام الخصومة وتزول بمقتضاها كافة الآثار القانونية التي كانت قد ترتبت إثر رفع الدعوى.

ويؤكد الأستاذ المستشار محمد وجدي عبدالصمد رئيس محكمة النقض الأسبق على الطبيعة الكاشفة لحكم الدستورية بقوله: "قد يقال إن من شأن سريان الحكم بعدم الدستورية على الماضي سريان الحكم بأثر رجعي والرجعية أمر مكروه في مجال القانون ولا سيما لمساسها بمراكز قائمة. بيد أن هذا القول يقوم على حجة داحضة، فالحكم بعدم الدستورية هو حكم بطبيعته كاشف عن عيب كامن في القانون، والمساس ببعض المراكز القائمة وإن كان أمرًا مكروهًا إلا أنه أبلغ منه في الكراهية الإخلال بالمساواة بين أصحاب المراكز القانونية المتماثلة، إذ ليس من المقبول أن يكون القانون غير دستوري بالنسبة للمستقبل، وأن يكون متفقًا مع المبادئ الدستورية بالنسبة للماضي[14].

ويؤكد الفقيه الكبير المرحوم الأستاذ الدكتور السنهوري على أن: الأحكام القضائية كاشفة بطبيعتها، فهي تكشف عن الحق، ولا تنشئه، وذلك في أكثر من موضع نذكر منها قوله بصدد طبيعة الحكم الصادر في الشفعة: "وإذا قلنا إن حكم الشفعة ليس منشئًا لملكية الشفيع، وإنما هو كاشف عن ثبوت حق الشفيع في الشفعة شأنه في ذلك شأن سائر الأحكام تكشف عن الحق ولا تنشئه"[15].

ولا نريد أن نسترسل أكثر من ذلك، ونذكر قول كل فقهٍ على حدة. إنما نود أن نؤكد أن هناك ما يشبه الإجماع بين الفقهاء على أن الحكم القضائي – ومن بينه بطبيعة الحال حكم الدستورية – كاشف عن الحق وليس منشئ له.

فالمحكمة الدستورية العليا لم تختلق هذه الفكرة، ولم تبتدعها، وإنما هى الطبيعة الذاتية التي اتفق عليها الفقه والقضاء، وقالها الفقه الدستوري والإداري من قبل بصدد الأحكام الصادرة بالإلغاء – والتي سبق أن أكدها طيلة أكثر من نصف قرن من الزمان في مصر وقبل أن تظهر المحكمة الدستورية العليا إلى الوجود بزمن طويل.

فالأحكام القضائية الصادرة من المحكمة الدستورية هي أحكام كاشفة عن العيب الكامن في التشريع، وهو عيب موجود به منذ ولادته، فهو ولد وبه المخالفة الدستورية، فهي لم تطرأ عليه ولم ينشئها الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا، بل إن دوره اقتصر – فقط – على الكشف عنها. ومن ثم، فإن – وكما يؤكد الأستاذ الدكتور عاطف البنا – الأثر الرجعى للأحكام الدستورية يفرضه المنطق القانوني، وتفرضه اعتبارات الفعالية، فالنص غير الدستوري ولد مخالفًا للدستور، فيكون باطلاً منذ صدوره، فالنص المشوب بعدم الدستورية يلحقه هذا العيب من أول يوم.

ومن ناحية أخرى، فإن اعتبارات فعالية الرقابة على دستورية القوانين وجدواها إنما تحتم أن يكون للحكم أثر رجعي. والقول بغير ذلك من شأنه أن يجعل هذه الرقابة لغوًا وعبثًا، وهزلاً، إذ من شأنه تحصين التطبيقات السابقة على حكم القضاء الدستوري، أي بقاؤها محكومة بقانون غير دستوري[16].

وقد استقام قضاء المحكمة الدستورية العليا واستقر على أن الأحكام القضائية كاشفة وليست منشئة، إذ هي لا تستحدث جديدًا، ولا تنشئ مراكز أو أوضاع لم تكن موجودة من قبل.

 

 

الأثر الرجعي للحكم الدستوري هو الأصل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

         إذا كنا قد خلصنا من العرض السابق إلى أن الأصل في الأحكام الصادرة من المحكمة الدستورية العليا أنها تسرى بأثر رجعي، فالأمر لا يخلو من تفصيلات بحسب ما إذا كان الحكم القاضي بعدم دستورية نص جنائي أم غير جنائي، فنعرض للأثر الرجعى لحكم الدستورية في المجال الجنائي ثم نعرض للأثر الرجعى لحكم الدستورية في المجال غير الجنائي.

 

أولاً: الأثر الرجعي لحكم الدستورية في المجال الجنائي:

         يجري نص المادة (195) من دستور 2014 علي أن: "تنشر في الجريدة الرسمية الأحكام والقرارات الصادرة من المحكمة الدستورية العليا، وهي ملزمة للكافة، وجميع سلطات الدولة، وتكون لها حجية مطلقة بالنسبة لهم، وينظم القانون ما يترتب على الحكم بعدم دستورية نص تشريعي من آثار.

ونصت المادة: (49/ 3، 4) من قانون المحكمة الدستورية العليا على الأثر الرجعى المطلق عند تنفيذ الحكم الصادر بعدم دستورية نص جنائي، وذلك بقولها: ويترتب على الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم فإذا كان الحكم بعدم الدستورية متعلقًا بنص جنائي، تعتبر الأحكام التي صدرت بالإدانة استنادًا إلى ذلك النص كأن لم تكن، ويقوم رئيس هيئة المفوضين بتبليغ النائب العام بالحكم فور النطق به.

 

المقصود بالنص الجنائي:

أول ما يستفاد من نص المادة: (49) سالفة الذكر أنه أطلق لفظ "جنائي" دون تحديد، بدلاً من "عقابي" الذى كان مقترحًا! من قبل في بعض المشاريع السابقة، بحيث تتسع لتشمل كافة النصوص التي تعمل في المجال الجنائي، سواء كانت نصوص عقابية تفرض عقوبة أو تدبير، أو نصوص خاصة بالتنفيذ، أو نصوص الإجراءات الجنائية[17].

وهذا الاتجاه تبرره اعتبارات العدالة، وطبيعة التشريعات الجنائية، وانها فى مجموعها وأنواعها تمس بطريقة مباشرة الحرية الشخصية للأفراد.

 

إطلاق الأثر الرجعى:

إذا صدر من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية نص جنائي، فإنه يسرى بأثر رجعى مطلق على جميع الأحكام القضائية الصادرة بالإدانة، استنادًا إلى ذلك النص المقضي بعدم دستوريته.

فلابد أن يكون الحكم الجنائي صادرًا بالإدانة، يستوي في ذلك أن يكون صادرًا بعقوبة مقيدة للحرية، أو سالبة لها، أو بعقوبة مالية – سواء كانت غرامة، أو تعويضات، أو رد مبالغ... إلخ.

ولابد – أيضًا – أن يكون هذا الحكم الجنائي قد صدر مستندا إلى النص القانوني المقضي بعدم دستوريته، وسواء صدر مستندًا إلى هذا النص وحده أو إلى مجموعة من النصوص من بينها النص غير دستوري، فإن الحكم الصادر بعدم الدستورية يمتد إليه.

فالأثر الرجعى في هذه الحالة يطبق بصفة مطلقة حتى ولو كانت الأحكام الصادرة بالإدانة أحكامًا باتة، وفى هذا انحياز كامل للشرعية والحرية الشخصية، ذلك أن الأحكام الجنائية تمس بطريق مباشر الحرية الشخصية للمواطن ولغير المواطن، وهى أعز ما يحرص عليه، فإذا اتضح أن النص الذى طبق عليه كان غير دستوري، فالعدالة تقتضى أن نغلب جانب الحرية على جانب حجية الأحكام الجنائية، وفى هذا إعمال كامل لمبدأ الشرعية.

 

كيفية تنفيذ حكم الدستورية من الناحية العملية:

ورد نص على اعتبار الأحكام الجنائية الصادرة بالإدانة استنادًا إلى نص قضى بعدم دستوريته "كأن لم تكن".

ومعنى "كأن لم تكن" يعنى سقوطها بكل آثارها، ولو صار الطعن فيها ممتنعًا لتفارقها قوة الأمر المقضي التي قارنتها، وهى رجعية كاملة أثبتها قانون المحكمة الدستورية العليا لأحكامها الصادرة بإبطال النصوص العقابية، وهى رجعية لا قيد عليها، ولا عاصم منها، بل يكون أثرها جارفًا لكل عائق على خلافها، لو كان حكمًا باتًا[18].

واعتبار الحكم كأن لم يكن – من الناحية العملية – لا يثير صعوبة إذا كان الحكم أو الأحكام الجنائية غير باتة، إذ يجوز الطعن فيها من ذوى الشأن، ومن النيابة العامة، وبالتالى إلغاؤها واعتبارها كأن لم تكن.

 

كيفية تنفيذ حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر بعدم دستورية نص جنائي:

الأصل أن إعمال أثر حكم المحكمة الدستورية العليا على النزاع الموضوعي منوط بمحكمة الموضوع، وذلك ابتناء على أن محكمة الموضوع هي التي تنزل بنفسها على الوقائع المطروحة عليها قضاء المحكمة الدستورية العليا على المسألة الدستورية باعتباره مفترضًا أوليًا للفصل في النزاع الموضوعي الدائر حولها. لكن هذا الأصل لا يجرى على إطلاقه، إذ أنه في كثير من الحالات تكون محكمة الموضوع استنفدت ولايتها – وبالتالي يجب التفرقة بين حالتين:

 

الحالة الأولى:

حالة ما إذا كانت الدعوى مازالت مطروحة أمام محكمة الموضوع سواء أكانت أول درجة أم محكمة الطعن أو لازالت في المراحل التمهيدية ولم تصل بعد إلى محكمة الموضوع.

في مثل هذه الحالات يطبق الأصل الذى أشرنا إليه آنفًا، ويترك الأمر لمحكمة الموضوع لتعمل آثار الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية نص جنائي على إطلاقه، وفق ما يتراءى لها، ولا يجوز عرض الأمر على المحكمة الدستورية العليا وقد أكدت على ذلك المحكمة الدستورية العليا في العديد من الأحكام نذكر منها على سبيل المثال حكمها الصادر بجلسة 30/7/2017 في القضية رقم 61 لسنة 38 قضائية دستورية.

        وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى أيضًا على أن إعمال آثار الأحكام التي تصدرها فى المسائل الدستورية هو من اختصاص محاكم الموضوع، وذلك ابتناءً على أن محكمة الموضوع هي التي تنزل بنفسها على الوقائع المطروحة عليها قضاء المحكمة الدستورية العليا في شأن المسألة الدستورية، باعتباره مفترضًا أوليًّا للفصل في النزاع الموضوعي الدائر حولها، ومن ثم فهي المنوط بها تطبيق نصوص القانون في ضوء أحكام المحكمة الدستورية العليا، الأمر الذى يستلزم، كأصل عام، اللجوء إلى تلك المحاكم ابتداءً لإعمال آثار الأحكام الصادرة فى المسائل الدستورية على الوجه الصحيح، وليضحي اللجوء الى المحكمة الدستورية العليا الملاذ الأخير لإزاحة عوائق التنفيذ التي تعترض أحكامها وتحول دون جريان آثارها، بما مؤداه أنه لا يصح أن يكون العائق المدعى به في منازعة التنفيذ، مجرد ادعاء مرسل أو إجراء مبدئي يناقض حكمًا للمحكمة الدستورية العليا، وإنما يلزم أن يتبلور هذا العائق في تصرف قانوني نافذ، بصورة نهائية، منتجًا لآثار قانونية تحول دون انسياب آثار حكم المحكمة الدستورية العليا، وتبعًا لذلك فإن مناط قبول منازعة التنفيذ يكون متخلفًا كلما كان الحائل المدعى به يمكن دفعه باتخاذ إجراء مقرر قانونًا يلزم اتباعه قبل سلوك سبيل منازعة التنفيذ، ذلك أن عوائق التنفيذ التي تختص هذه المحكمة بإزاحتها لا تمتد إلى أي عمل تمهيدي أو إجراء افتتاحي يدخل ضمن سلسلة من الإجراءات التي تكوّن في مجموعها وعند تمامها عملًا قانونيًّا مكملًا، يصلح أن يكون محلاًّ لنزاع يتم عرضه على القضاء.

الحالة الثانية: حالة استنفاد محكمة الموضوع لولايتها:

         في حالة صدور حكم بات من محكمة الموضوع، فإن المحكمة لا تستطيع التعرض مرة ثانية للموضوع لإعمال أثر الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا، ولا يكون من أمر سوى اللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا عن طريق طرح منازعة تنفيذ أمامها تطلب من المحكمة الدستورية الأمر بالأستمرار في تنفيذ حكمها باعتبار أن صدر حكم قضائي بات ابتنى على النص المحكوم بعدم دستوريته يعد عقبة من عقبات تنفيذ الحكم الدستوري.

لكن ما هي العلة من اشتراط أن يكون الحكم المنازع في تنفيذه قد صار باتًا؟

         الحكم البات هو الذى استغلقت جميع طرق الطعن أمامه سواء باستنفاد هذه الطرق أو صدوره غير قابل للطعن عليه أو فوات مواعيد الطعن دون طعن، فلا يجوز اللجواء إلى المحكمة الدستورية العليا قبل استنفاد هذه الطرق أو فوات المواعيد ذلك أن اللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا هو الملاذ الأخير لتصحيح مسار الأحكام القضائية.

         وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا هذه المعانِ في أكثر من حكم نعرض لبعض هذه الأحكام.

فقد أوردت الإجراءات

 

        بتاريخ الثاني عشر من مارس سنة 2016، أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طلبًا في ختامها الحكم بصفة مستعجلة بوقف تنفيذ الحكم الصادر من محكمة النقض بجلسة 11/2/2014 في الطعن رقم 3072 لسنة 83 ق، والاستمرار في تنفيذ حكمي المحكمة الدستورية العليا الصادر أولهما في القضية 196 لسنة 35 قضائية دستورية بجلسة 8/11/2014، والصادر ثانيهما فى القضية رقم 78 لسنة 36 قضائية دستورية بجلسة 14/2/2015.

        وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة بدفاعها، طلبت في ختامها الحكم بعدم قبول الدعوى.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.

ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

الوارد على السلطة التقديرية لمحكمة الموضوع بنص الفقرة الأخيرة من المادة (26) من القانون المشار إليه، وهو القيد المتمثل في عدم جواز النزول بالعقوبة؛ بما يجعل حكمها - بعد إزالة هذا القيد - أقل وطأة، إذا ارتأت استعمال سلطتها التقديرية في النزول بالعقوبة طبقًا لنص المادة (17) من قانون العقوبات، ومن ثم يكون حكم محكمة النقض الصادر في الطعن المشار إليه، فيما تضمنه من عدم إمكان استعمال تلك السلطة التقديرية، مخالفًا لما قضت به المحكمة الدستورية العليا في حكمها الصادر في القضية رقم 196 لسنة 35 قضائية "دستورية"، وتبعًا لذلك فإنه يشكل عقبة عطلت تنفيذ الأثر الرجعى لهذا الحكم، مما يتعين معه القضاء بإزالتها، وما يترتب على ذلك من إعادة نظر الدعوى الموضوعية، واسترداد محكمة جنايات الجيزة سلطتها التقديرية في هذا الصدد، إعمالاً للأثر الكاشف لحكم المحكمة الدستورية العليا، وفقًا لأحكام المادة (49) من قانونها على النحو السالف البيان.

 

فلهـذه الأسبـاب

        حكمت المحكمة بالاستمرار فى تنفيذ الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا بجلسة 8/11/2014، فى القضية رقم 196 لسنة 35 قضائية "دستورية"، وعدم الاعتداد بالحكم الصادر من محكمة النقض بجلسة 7/4/2014  في الطعن رقم 14935 لسنة 83 قضائية، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائتي جنيه مقابل أتعاب المحاماة[19].

 

ثانيًا : الأثر الرجعى لحكم الدستورية في غير المجال "الجنائي"

 أحال الدستور في المادة :(195) منه على القانون في تنظيم الآثار التي تترتب على الحكم الصادر بعدم دستورية النص بقوله: ".....، وينظم القانون ما يترتب على الحكم بعدم دستورية نص تشريعي من آثار".

وجاء القانون رقم: 48 لسنة 1979 لينص في المادة: (49/3) منه على أنه: "يترتب على الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم".

وقد ورد بالبند العاشر من المذكرة الإيضاحية تعليقًا على هذه الحالة: "وتناول القانون أثر الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة، فنص على عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم، وهو نص ورد في بعض القوانين المقارنة، واستقر الفقه والقضاء على أن مؤداه هو عدم تطبيق النص ليس في المستقبل فحسب، وإنما بالنسبة إلى الوقائع والعلاقات السابقة على صدور الحكم بعدم دستورية النص، على أن يستثنى من هذا الأثر الرجعى الحقوق والمراكز التي تكون قد استقرت عند صدوره بحكم حاز قوة الأمر المقضي أو بانقضاء مدة التقادم.

أما إذا كان الحكم بعدم الدستورية متعلقًا بنص جنائي، فإن جميع الأحكام التي صدرت بالإدانة استنادًا إلى ذلك النص تعتبر كأن لم تكن حتى لو كانت أحكامًا باته".

والواقع أنه من مقارنة ما ورد بالنص مع ما ورد بالمذكرة الإيضاحية نجد تعارضًا صريحًا وتناقضًا واضحًا، إذ أن النص يقرر الأثر المباشر لحكم المحكمة الدستورية العليا، الصادر بعدم دستورية نص غير جنائي، بينما المذكرة الإيضاحية تقول بالأثر الرجعى.

فكيف يمكن فض هذا التعارض، أو التناقض؟

إن الفاحص للنص وما ورد بالمذكرة الإيضاحية فحصًا دقيقًا، يجد أن هذا التعارض ما هو إلا تعارض ظاهري فحسب، إذا ما فسر على ضوء ما يقابل هذا النص فى القانون المقارن، لا سيما أن هذا النص يجد مصدره التاريخى في نص المادة (40) من القانون الإيطالي رقم (878) لسنة 1953، إذ أن المستقر عليه في الفقه والقضاء في إيطاليا أن النصوص التي يقضى بعدم دستوريتها تعتبر غير صالحة للتطبيق من اليوم التالي لنشر الحكم، ولا يقتصر عند التطبيق على الوقائع والمراكز القانونية التي تتكون بعد نشر الحكم بعدم الدستورية، وإنما يمتد ذلك إلى ما حدث من وقائع، وأنشأ من مراكز قانونية قبل الحكم[20].

ومن خلال ما تقدم، يذهب الرأي الغالب في الفقه إلى أن ما ورد بالمذكرة الإيضاحية هو المعول عليه باعتباره التفسير الصحيح لنصوص القانون[21].

كما انه يتفق مع طبيعة الأحكام القضائية وكونها كاشفة وليست منشئة. فالمحكمة حين تقضى بعدم الدستورية لتشريع أو لائحة، فإنها بحكمها هذا لا تنشأ البطلان، وإنما هي تقرر شيئًا قائمًا فعلاً بحكم الدستور. فالتشريع المقضي بعدم دستوريته باطل منذ ولادته، والمحكمة تكشف عن شيئ موجود من قبل.

فعيب عدم الدستورية عيب مصاحب لنشوء النص التشريعي أو اللائحة، وحكم المحكمة الدستورية كاشف عن هذا العيب، سواء أكان النص جنائي أو غير جنائي، مما يقتضى ان يكون حكم المحكمة الدستورية العليا كاشفًا وليس منشئًا. وفوق ذلك، فإن الأثر المباشر للحكم يعنى عدم استفادة رافع دعوى الدستورية فى دعواه الموضوعية من الحكم الصادر بعدم دستورية النص الذى يحكم دعواه والذى دفع بعدم دستوريته أمام محكمة الموضوع، وبذلك تنتقى الفائدة العملية من الحكم بعدم الدستورية.

فعدم تقرير الرجعية، معناه أنه يتعين على قاضى الموضوع أن يطبق النصوص التشريعية أو اللائحية التي يقضى بعدم دستوريتها على الدعوى المطروحة أمامه، لأنها تتعلق بوقائع سابقة على نشر الحكم بعدم الدستورية، وهذا ما يأباه المنطق ويتعارض مع الحكمة من تقرير الرقابة على دستورية القوانين، فلا معنى لوقف الدعوى أمام محكمة الموضوع، وإحالة الأمر إلى المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية النص الذى يحكم دعواه الموضوعية، ويكون حكم عدم الدستورية عديم الجدوى في هذه الحالة، ومجردًا من كل قيمة، بل إنه يجرد النصوص الدستورية وكل ما يترتب من إجراءات وأحكام تتعلق بدفوع عدم الدستورية من كل قيمة، ويحيل هذه الإجراءات والأحكام جميعها إلى لغو يجب تنزيه المشرع عنه.

كما قضت المحكمة بان "الأصل في الأحكام القضائية أنها كاشفة وليست منشئة، إذ هي لا تستحدث جديدًا، ولا تنشئ مراكزًا أو أوضاعًا لم تكن موجودة من قبل، بل هي تكشف عن حكم الدستور أو القانون في المنازعات المطروحة على القضاء، وترده إلى مفهومه الصحيح الذى يلازمه منذ صدوره، الأمر الذى يستتبع أن يكون للحكم بعدم الدستورية أثر رجعى كنتيجة حتمية لطبيعته الكاشفة، بيانا لوجه الصواب فى دستورية النص التشريعي المطعون عليه منذ صدوره، وما إذا كان هذا النص قد جاء موافقًا للدستور فى حدوده المقررة شكلاً وموضوعًا، فتتأكد للنص شرعيته الدستورية، ويستمر نفاذه ام أنه صدر متعارضًا مع الدستور فينسلخ عنه وصفه وتنعدم قيمته بأثر ينسحب إلى يوم صدوره.

وفضلاً عن ذلك، فإن المشرع حين أجاز في قانون المحكمة الدستورية العليا إثارة المسألة الدستورية اثناء نظر إحدى الدعاوى أمام أي من جهات القضاء.. إما من تلقاء نفسها أو بطريق الدفع من أحد الخصوم، وأوجب على الجهة القضائية عند الشك فى عدم الدستورية، وقف الدعوى أو تأجيلها، انتظارًا لحكم المحكمة الدستورية العليا بالفصل فى المسألة المثارة، إنما كان يبغى بذلك تحقيق فائدة للخصم فى المنازعات الموضوعية التى أثير فيها الدفع الدستوري، فيما لو قضى بعدم الدستورية، وهى منازعات يدور كلها حول علاقات وأوضاع سابقة بالضرورة على الحكم بعدم الدستورية، فإذا لم يكن لهذا الحكم أثر رجعى لأصبح لزامًا على قاضى الموضوع – الذى أرجأ تطبيق القانون حين ساوره الشك في عدم دستوريته – أن يطبق ذات القانون بعد القضاء بعدم دستوريته، مما يأباه المنطق القانوني السليم ويتنافى مع الغرض المرتجى من الدفع بعدم الدستورية، ولا يحقق لمبدي الدفع أية فائدة عملية، مما يجعل الحق في التقاضي وهو من الحقوق العامة التى كفلها الدستور فى المادة (68) منه للناس كافة – بالنسبة للمسألة الدستورية غير مجد ومجردًا من مضمونه، الأمر الذى ينبغي تنزيه المشرع عن قصد التردي فيه.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن النص في المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا على عدم جواز تطبيق النص المقضي بعدم دستوريته من اليوم التالي لنشر الحكم بعدم الدستورية، هو خطاب تشريعي موجه لجميع سلطات الدولة، وللكافة للعمل بمقتضاه.

ولما كان قاضى الموضوع – وهو من بين المخاطبين بهذا النص التشريعي – فإنه يكون متعينًا عليه عملاً بهذا النص، ألا ينزل حكم القانون المقضي بعدم دستوريته على المنازعات المطروحة عليه من قبل، وذلك يؤكد قصد المشرع في تقرير الأثر الرجعى للحكم بعدم الدستورية، ويؤيد انسحابه على ما سبقه من علاقات وأوضاع نشأت في ظل القانون الذى قضى بعدم دستوريته.

وقد أعملت المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا هذه الرجعية على إطلاقها بالنسبة للنصوص الجنائية إلى حد إسقاط حجية الأمر المقضي لتعلقها بالإدانة في أمور تمس الحريات الشخصية. أما في المسائل الأخرى غير الجنائية فيسرى عليها كذلك الأثر الرجعى للحكم بعدم الدستورية، ما لم يكن للعلاقات والأوضاع السابقة عليه اساس قانوني آخر ترتكن إليه ويحد من إطلاق الرجعية عليها . وهذا ما أفصحت عنه المذكرة الإيضاحية لقانون المحكمة الدستورية العليا في تعليقها على نص المادة (49) منه، حيث جاء بها أن القانون "تناول أثر الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة، فنص على عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم، وهو إن ورد في بعض القوانين المقارنة، واستقر الفقه والقضاء على أن مؤداه هو عدم تطبيق النص ليس في المستقبل فحسب، وإنما بالنسبة إلى الوقائع والعلاقات السابقة على صدور الحكم بعدم دستورية النص، على أن يستثنى من هذا الأثر الرجعى الحقوق والمراكز التي تكون قد استقرت عند صدوره بحكم حاز قوة الحكم المقضي أو بانقضاء مدة التقادم.

 

ثالثًا: الأثر المباشر للحكم الدستوري "النصوص الضريبية"

        

بعد صدور القرار بقانون 168 لسنة 1998 أصبح للحكم الصادر بعدم دستورية نص ضريبى سمة خاصة فيما يتعلق بنطاقه الزمنى، وأصبح لا يسرى فى جميع الأحوال إلا بأثر مباشر[22]، وقد أثار هذا القرار بقانون – وقت صدوره – كثير من المشكلات لا داعى لعرضها ونوجز القول في بعض النقاط:

 

  1. مفهوم النص الضريبي.
  2. مدي استفادة غير رافع الدعوى من الحكم بعدم الدستورية.
  3. وضع النصوص الضريبية التي تقرر العقوبة.
  4. التعديل لا يشمل النصوص الخاصة بالرسوم.

 

 

  1. مفهوم النص الضريبة:

الضريبة فى تعريفها المبسط هى فريضة مالية تقتضيها الدولة جبرًا من مواطنيها بما لها من سيادة. وإنشاء الضريبة وتعديلها، او إلغاءها، لا يكون إلا بقانون.

وقد بينت المحكمة الدستورية العليا فى أحكامها مفهوم الضريبة، والفرق بينها وبين الرسوم. ففى حكم لها بجلسة 19/6/1993 فى القضية رقم: 5 لسنة 10 "قضائية دستورية"، حيث قضت بأن: "الأصل فى الضريبة أنها فريضة مالية تقتضيها الدولة جبرًا بما لها من سيادة، وقد ارتبط فرض الضرائب من الناحية التاريخية بوجود المجالس التشريعية لما ينطوى عليه تقريرها من تحميل المكلفين بها أعباء مالية تقتطع من ثرواتهم لذلك نص الدستور في المادة (119) على أن إنشاء الضرائب العامة وتعديلها أو إلغاءها لا يكون إلا بقانون، ولا يعفى أحد من أدائها إلا فى الأحوال المبينة فى القانون.

 

ويقع فرض الضريبة مخالفًا للدستور كلما كان معدلاً، وأحوال فرضها وتحديد وعائها مناقضًا للأسس الموضوعية التى ينبغي أن تقوم عليها، مجاوزًا للأغراض المقصودة منها[23].

وفى حكم آخر، فرقت المحكمة بين الضريبة والرسم بقولها "إن من المقرر وعلى ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة، أن الضريبة فريضة مالية تقتضيها الدولة جبرًا من المكلفين بأدائها إسهامًا من جهتهم فى أعبائها وتكاليفها العامة. وهم يدفعونها لها بصفة نهائية ودون أن يعود عليهم نفع خاص من وراء التحميل بها، فلا تقابلها خدمة محددة بذاتها، ويكون الشخص العام قد بذلها من أجلهم وعاد عليهم مردودها.

ومن ثم، كان فرضها مرتبطًا بمقدرتهم التكليفية ولا شأن لها بما آل إليهم من فائدة بمناسبتها، وإلا كان ذلك خلطًا بينها وبين الرسم إذ يستحق مقابلاً لنشاط خاص أتاه الشخص العام، وعوضًا عن تكلفته وإن لم يكن بمقدارها[24].

هذا عن مفهوم الضريبة وتميزها عن الرسم، فالأولى بغير خدمة تقابلها، بينما الثانية لا بد أن يقابلها خدمة حقيقة.

 

وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا في أكثر من حكم على أن الأثر المباشر يقتصر فقط على الأحكام التي أصدرتها في مجال الضرائب، أما فى مجال الرسوم فلا يسرى عليها هذا الأثر المباشر وإنما تخضع للقواعد العامة ويسرى الحكم الصادر بعدم دستورية نص يتعلق بالرسوم بأثر رجعى إذ أن الأصل أن يكون لأحكام هذه المحكمة بعدم الدستورية أثر رجعى يرتد إلى تاريخ صدور النص المقضي بعدم دستوريته، مالم تستقر المراكز القانونية التى نشأت فى ظله بحكم بات، ولا يستثنى من ذلك إلا النصوص الضريبية، المحكوم بعدم دستوريتها، فيسرى حكم المحكمة من اليوم التالى لنشره، بما يترتب عليه عدم جواز تطبيقه على الخصوم فى المنازعات الضريبية المتداولة أمام جهات القضاء، حتى ما كان منها قائمًا فى تاريخ سابق على نشر الحكم فى الجريدة الرسمية، مالم تكن الحقوق الضريبية والمراكز القانونية التي ترتبط بها قد استقر أمرها بناء على حكم قضائي بات، صدر قبل قضاء المحكمة الدستورية العليا، ولا كذلك الرسوم التي تفرض لقاء خدمة تؤديها جهة الإدارة، ذلك أن الاستثناء لا يقاس عليه ولا يتوسع في تفسيره، وإذ كان النص قد خص بهذا الأثر المباشر الضرائب وحدها، فقد دل بمفهوم المخالفة على عدم سريان هذا الحكم الاستثنائي على الرسوم، ومن ثم يجوز المطالبة بها بأثر رجعى من تاريخ نفاذ النص المخالف للدستور[25].

 

  1. مدى استفادة غير رافع الدعوى الموضوعية من الحكم:

 

يقصد برافع الدعوى الأصلية هنا الخصم الذى دفع بعدم الدستورية أمام محكمة الموضوع، سواء أكان هو المدعى أو المدعى عليه، والذى قدرت المحكمة جدية دفعه، وصرحت له بالتالي برفع الدعوى الدستورية . وهى تنصرف أيضًا وتحديدًا إلى الطاعن فقط الذى فصلت المحكمة الدستورية العليا فى طعنه دون باقى الطاعنين، بعدم دستورية ذات النص، ولم تنظر المحكمة الدستورية طعنهم.

 

فالتعديل الجديد جعل الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية نص ضريبي لا يسرى إلا بأثر مباشر. فمنع الأثر الرجعى للحكم بصورة مطلقة وعامة بالنسبة للنصوص الضريبية، وجاءت استفادة رافع الدعوى فقط ليس إعمالاً لأثر الحكم بل بنص صريح قرره المشرع.

 

وقد ورد النص الصريح على ذلك فى المادة الأولى من القرار بقانون 168 لسنة 1998 بقوله "على أن الحكم بعدم دستورية نص ضريبى لا يكون له فى جميع الأحوال إلا أثر مباشر، وذلك دون إخلال باستفادة رافع الدعوى من الحكم بعدم دستورية هذا النص.

فأي حكم صادر من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية نص ضريبى اعتبارًا من اليوم التالي لتاريخ نشر هذا القرار، أى اعتبارًا من 12 يوليو 1998، لا يكون له أى أثر رجعى إنما ينصرف عدم الدستورية إلى إبطال النص فى المستقبل فقط دون مساس بما رتبه قبل نشر الحكم من حقوق أو مراكز أو أوضاع.

 

ويسرى الأثر المباشر على المواد المرتبطة بالمادة المطعون عليها فى القانون الضريبي طالما كانت تطبيقاتها تحصر فى المسائل الضريبة وحدها[26].

 

وقد استشعر المشرع أن هذا النص سيثير خلافًا فى التطبيق حول المستفيدين من حكم عدم الدستورية، فأورد أن المستفيد هو المدعى فى الدعوى الدستورية فقط، سواء كان هذا المدعى هو الطاعن بعدم الدستورية أمام محكمة الموضوع، أو كان من ذى المصلحة فى حالتي الإحالة والتصدي. وذلك إعمالاً لغاية نهائية لكل خصومة قضائية، وهى الترضية القضائية.

 

وقد أكدت المذكرة الإيضاحية للقرار بقانون هذا المعنى بقولها "وحسمًا لأى خلاف فى شأن ما إذا كان الأثر المباشر للأحكام الصادرة ببطلان نص ضريبى ينسحب إلى ذى المصلحة فى الخصومة الدستورية، أم ينحسر عنه. فقد نص المشرع على أنه سواء أثيرت المسألة الدستورية عن طريق الدفع أو عن طريق الإحالة أو التصدي، فإن الفائدة العملية للخصومة الدستورية يتعين أن يجنيها كل ذى شأن فيها من أطرافها ضمانًا لفعالية حق التقاضي، ولأن الترضية القضائية هى الغاية النهائية لكل خصومة قضائية على ما جرى به قضاء هذه المحكمة.

 

فالنص الجديد، حرم غير المدعى من أن يجنى ثمار عدم الدستورية، فلا يستفيد غير رافع الدعوى بالمعنى والوصف المتقدم، وسواء فى ذلك من طعن بعدم الدستورية على ذات النص ولم تنظر المحكمة دعواه بعد، أو كان من الأصل لم يطعن بعدم الدستورية، وهذه لا شك نتيجة يأباها المنطق، وتستعصى على الفهم القانونى السليم، وتثير العديد من المشكلات القانونية والواقعية، وتتنافى بشدة مع اعتبارات العدالة على نحو ما سيتضح تباعًا.

المحكمة الدستورية العليا تحدد مدلولاً واسعًا للمدعى:

من جانبها، ومحاولة لتفادى هذا الوضع السابق، فقد وسعت المحكمة الدستورية العليا من تحديدها لمفهوم المدعى مقررة فى العديد من أحكامها، وأطلقتها لتشمل كل من اتصلت دعواه مستوفاة أوضاعها القانونية بالمحكمة الدستورية العليا وقت صدور الحكم بعدم دستورية النص.

نموذجًا لذلك، حكمها الصادر فى الدعوى رقم 17 لسنة 35 قضائية "منازعة تنفيذ" جلسة 4/5/2014.

وقد وسعت المحكمة الدستورية العليا من مفهوم المدعى مرة أخرى وفى أحدث أحكامها ليشمل كل خصم إتصلت دعواه بإحدى جهات القضاء، قبل صدور حكمها بعدم دستورية نص تشريعي.

وحيث إن المحكمة الدستورية العليا قد سبق لها أن حسمت المسألة الدستورية المثارة في هذه الدعوى، وذلك بحكمها الصادر بجلسة 6/2/2021، في الدعوى رقم 92 لسنة 40 قضائية "دستورية"، القاضي أولاً: بعدم دستورية صدر الفقرة الرابعة من المادة (4)، والفقرة الثانية من المادة (10) من القانون رقم 394 لسنة 1954 في شأن الأسلحة والذخائر المستبدلتين بالقانونين رقمى 75 لسنة 1958 و26 لسنة 1978 فيما تضمنتاه من اعتبار عدم التصرف خلال المدتين المبينتين بهما، فى سلاح نارى أودع لدى الشرطة لسحب أو إلغاء ترخيص حائزه، تنازلاً منه أو من ذوي الشأن، للدولة عن ملكية السلاح، وسقوط الحق فى التعويض عنه.

ثانيًا : بسقوط عجز الفقرة الرابعة والفقرة الخامسة من المادة (4) من القانون رقم 394 لسنة 1954 المشار إليه.

ثالثًا : بتحديد اليوم التالى لنشر هذا الحكم فى الجريدة الرسمية تاريخًا لإعمال أثره. ونشر هذا الحكم في الجريدة الرسمية بالعدد 5 مكرر (ج) بتاريخ 10/2/2021. متى كان ذلك، وكان مقتضى نص المادة (195) من الدستور، والما\دتين (48، 49) من قانون هذه المحكمة الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979، أن تكون الأحكام والقرارات الصادرة من المحكمة الدستورية العليا ملزمة للكافة، وجميع سلطات الدولة، وتكون لها حجية مطلقة بالنسبة لهم، باعتبارها قولاً فصلاً لا يقبل تأويلاً ولا تعقيبًا من أي جهة كانت، وهى حجية تحول بذاتها دون المجادلة فيها أو إعادة طرحها عليها من جديد لمراجعتها، الأمر الذى يتعين معه القضاء باعتبار الخصومة منتهية.

وحيث إن القضاء باعتبار الخصومة منتهية في الدعوى المعروضة، لا يحول دون استفادة المدعي في الدعوى الموضوعية، من الحكم الصادر في الدعوى رقم 92 لسنة 40 قضائية "دستورية" السالف البيان، ذلك أن المقصود بالمدعي الذي يستفيد من الحكم الصادر بعدم دستورية نص تشريعي، حُدّدَ تاريخٌ لنفاذه، وفقًا لنص المادة (49) من قانون هــــــذه المحكمة – وعلى ما جرى به قضاؤها – كل خصم اتصلت دعواه بإحدى جهات القضاء، قبل صدور حكم هذه المحكمة بعدم دستورية نص تشريعي، متى كان النص المقضي بعدم دستوريته واجب التطبيق في الدعوى الموضوعية[27].

 

  1. وضع النصوص الضريبية التي تقرر عقوبة

قد يصدر من المحكمة الدستورية العليا حكمًا بعدم دستورية نص ضريبي، وفى ذات الوقت يكون متضمنًا لتجريم فعل معين وتقرير عقوبة له، فهل مثل هذا الحكم يسرى بأثر رجعى مطلق بحيث تعتبر جميع الأحكام الصادرة بالإدانة استنادًا إليه كأن لم تكن ولو كانت أحكامًا باته، أم يسرى عليها الأثر المباشر الذى جاء به القرار بقانون 168 لسنة 1998.

وبمعنى آخر، هل ينظر إليه باعتباره نصًا ضريبي، أم باعتباره نصًا جنائيًا؟ وقبل أن نجيب على ذلك نوضح أن الفقه يتفق على الأفعال المادية التي تمثل اعتداء على حق يحميه التشريع الضريبي تعد جرائم جنائية بالمعنى الدقيق، وهنا ما هو عمدى وما هو غير عمدى، حيث يفترض قيام الركن المادي، والقصد الجنائي فى الجرائم العمدية، وعلى سبيل المثال فإن جريمة التهرب الضريبي فى قانون ضريبة المبيعات تعد من الجرائم العمدية، حيث يلزم توافر ركن مادى يتمثل فى الامتناع عن تقديم الإقرار أو عدم التقدم للمصلحة للتسجيل لديها فى المواعيد القانونية، أو التأخير فى تقديم الإقرار، بينما الركن المعنوي للجريمة يتمثل فى القصد الجنائي العام، حيث يلزم أن يعلم الجاني بطلب المصلحة منه التقدم للتسجيل فى المواعيد المحددة، وأن تتجه إرادته إلى هذا الامتناع، وذلك بنية التهرب من الضريبة.

 

والتشريعات الضريبة الضريبية فى الكثير، تقرر جزاءات تعد عقوبات جنائية، والأمثلة على الجرائم الضريبية والعقوبات المقررة عليها عديدة لا مجال لحصرها هنا.

 

وبمعنى آخر، فإننا نرى أنه إذا صدر من المحكمة الدستورية العليا نص تشريعي يفرض عقوبة على مخالفة نص ضريبى لعدم تناسب العقوبة مع الخطأ المنسوب إلى الممول أو بعدم دستورية نص ينقل عبء الإثبات الجنائى فى المسائل الضريبية، فإن الحكم الصادر بعدم دستورية هذه النصوص وأمثالها يسرى بأثر رجعى مطلق لا يحده قيد شأنه فى ذلك شأن أى حكم آخر يصدر بعدم دستورية أى نص جنائى، ولا يسرى عليه هذا التعديل الذى جاء به القرار بقانون 168 لسنة 1998.

 

وسندنا في ذلك، أن الغرض الأساسي، بل والوحيد من التعديل، هو الحفاظ على موارد الخزانة العامة، والتي تشكل الضرائب الجزء الأكبر منها، والحيلولة بين رد الضرائب التي سبق دفعها من جانب الممولين بما يحمل الدولة بأعباء مالية تنوء بها خزانتها.

وقد أكدت على ذلك المذكرة الإيضاحية للقرار بقانون المذكور بقولها: "وقد أدى الإطلاق فى تطبيق قاعدة الأثر الرجعى لأحكام المحكمة فى غير المسائل الجنائية، إلى صعوبات متعددة فى مجال التطبيق، يندرج تحتها الإخلال بمراكز قانونية امتد زمن استقرارها وتحميل الدولة بأعباء مالية تنوء بها خزانتها بما يضعفها فى مجال تحقيق مهامها التنموية والنهوض بالخدمات والمرافق العامة التى تمس مصالح المواطنين فى مجموعهم.

 

وعلاجًا لمشكلات الإطلاق فى تطبيق قاعدة الأثر الرجعى فى مثل هذه الحالات التى كشفت عنها التجربة، فقد رؤى تعديل حكم الفقرة الثالثة من المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا، الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 بما يكفل تحقيق الأغراض الآتية:

  • ...............
  • تقرير أثر مباشر للحكم بنص القانون إذا كان متعلقًا بعدم دستورية نص ضريبى، ذلك أن إبطال الضريبة بأثر رجعى مؤداه أن ترد حصيلتها التى انفقتها فى مجال تغطية أعبائها إلى الذين دفعوها من قبل، بما يعجزها عن مواصلة تنفيذ خططها فى مجال التنمية، ويعوقها عن تطوير أوضاع مجمعها ويحملها على فرض ضرائب جديدة لسد العجز فى موازنتها.

        فالتعديل يهدف إذن إلى معالجة ما يؤدى إلية الأثر الرجعى من رد حصيلة الضرائب التى دفعت من قبل، بما يؤثر على الخزانة العامة للدولة، ويعوق الدولة عن تنفيذ خططها.

ومن ثم، فلا معنى لأن يأتى التعديل على خلاف الأحكام العامة للدستور، بما لم يهدف إليه، فهو لم يهدف إلى المساس بآثار الأحكام الدستورية فى المجال الجنائي، يستوى فى ذلك أن تكون هذه الأحكام الصادرة بعدم دستورية نص جنائى سواء أكان صادراً فى مادة ضريبية أم غير ضريبية. فيجب أن ينظر إليه على أنه نص جنائي وفقط، وبالتالي يسرى عليه ما يسرى على سائر النصوص الجنائية.

 

فليس هناك ما يدعو المشرع إلى مد أثر عدم رجعية أحكام المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية النصوص المتعلقة بالضرائب إلى مختلف المسائل المتعلقة بالضرائب حتى وإن كانت لا تمس من قريب أو بعيد بصالح الخزانة العامة، أو كانت لا تمس أصلا وعاء الضريبة[28].

 

خلاصة ما تقدم، أن النصوص الضريبية الجنائية لا يسرى عليها القرار بقانون 168 لسنة 1998، ويسرى عليها الأحكام الواردة بالمادة (49) قبل تعديلها طبقًا لما استقرت عليه أحكام المحكمة الدستورية العليا على نحو ما أوضحنا تفصيلاً من قبل، ولأن هذا النص سيكون هو القانون الأصلح للمتهم.

 

  1. التعديل لا يشمل النصوص الخاصة بالرسوم:

الأمر الذى لا شك فيه أن هذا التعديل جاء على خلاف الأصل بالنسبة لأثر أحكام المحكمة الدستورية العليا. فالأصل الذى لا خلاف عليه حتى من جانب واضع المذكرة الإيضاحية لهذا القرار بقانون، هو أن الأحكام الصادرة من المحكمة الدستورية العليا لها أثر رجعى يمتد إلى تاريخ صدور النص المقضي بعدم دستوريته، وذلك وكما تقول المذكرة الإيضاحية، نتيجة حتمية لطبيعته الكاشفة. وقد فصلنا ذلك من قبل بما لا مزيد عليه.

وإذا كان الأمر ذلك، فإن كل ما جاء على خلاف الأصل يجب أن يفسر فى أضيق نطاق لا سيما إذا كان التفسير الواسع لا يحقق الصالح العام للأفراد بل يضر به.

وطالما أن التعديل "القرار بقانون" قد أورد بصريح نصه أن الحكم بعدم دستورية نص ضريبي لا يكون له فى جميع الأحوال إلا أثر مباشر.

 

فالنص إذن لم يشر من قريب أو بعيد إلى النصوص التى تفرض رسومًا أو تعدلها أو تلغيها، ومن ثم فيجب أن يسرى على النصوص الضريبية فقط ولا يجوز تفسير هذا النص الضريبي تفسيرًا واسعًا فلا تقاس عليه أية نصوص أخرى حتى لو كانت تضر بالخزانة العامة، أو بموارد الدولة، فلا يمتد إعمال هذا النص مثلاً إلى الرسوم[29].

ومما يؤكد ذلك أن أغلب الفقه والقضاء يذهب إلى أن النصوص الضريبية يجب أن تفسر حرفيا. فعلى المفسر أن يلتزم حرفية هذه النصوص وفقًا للمعنى الذى يقصده المشرع الضريبي حتى ولو كان لا يتفق مع قواعد القانون المدنى أو التجارى أو غيرهما من القوانين، استنادًا إلى القانون الضريبي قانون خاص يجب تطبيقه فى حدود نصوصه، أو أنه من الأحكام الاستثنائية التى لا يجب التوسع فى تفسيرها بطريق الاستنتاج، كما أن فى التفسير الحرفي حماية للممول من مد نطاق هذا التفسير ليشمل حالات أخرى للخضوع للضريبة لم ينص القانون عليها صراحة.

 

المبحث الثانى

إطلالة على الأثر المستقبلي للحكم بعدم الدستورية

         ظهرت بعض الأفكار التي تنادى بإرجاء آثار بعض الأحكام لفترة زمنية معينة، فلا تسري بأثر رجعي كما هو الأصل، وإنما يوقف سريان آثار الأحكام لفترة لاحقه لمدة ستة أشهر أو سنة أو أكثر أو أقل، مراعاة لضرورات تلم بالدولة ككل، أو إعطاء فرصة للمشرع لكى يتفادى حدوث هزة اقتصادية أو اجتماعية، أو مراعاة لأية أمور أخري بحسب ظروف الدولة، وذلك تطبيقًا لما يسمي "بفكرة الأمن القانوني".

         ونتناول فيه النقطتين

  • أولاً: فكرة الأمن القانوني.
  • ثانياً: تطبيق فكرة الأثر المستقبلي للحكم فى مصر.

أولاً:  فكرة الأمن القانوني.

         تنطلق فكرة الأمن القومي من النظر إلى دور القاضي الدستوري، ومهمته حين يباشر الرقابة على دستورية القوانين، وأن هذا الدور يجب ألا يكون مجرد حماية القيم الدستورية، والدفاع عن الدستور فقط، بل يلزم فى الوقت ذاته حماية المجتمع بأسره، والدفاع عنه ضد الهزات الكبري التي يمكن أن تحدث له أو أن يحدث له اضطراب كبير بما يخل بالاستقرار، فالرقابة الدستورية يجب أن تواجه مشكلة خطيرة هي كيفية المحافظة علي "الأمن القانوني" ولا يجب أن يصور القاضي الدستوري على أنه منفصل عن العالم، ويمارس وظيفته الدستورية بصورة آلية، وعليه أن يلجأ إلى كثير من الحيل القانونية لكي يحقق التوازن المطلوب بين الحفاظ على فاعلية الحكم الصادر بعدم الدستورية، والأصل فيه أنه يسري بأثر رجعي، وبين إيقاف هذا الأثر أو الحد منه في بعض الموضوعات التي من شأنها أن تحدث اضطرابًا غير مفيد للنظام الدستوري كله أو إلى المساس بالاستقرار الضروري للمراكز القانونية[30].

 

         وفى القضاء المقارن: سادت هذه النظرة في إيطاليا، إذ التجأت إليها المحكمة الدستورية الإيطالية، فقد نادى البعض من الفقه بأنه يمكن تحديد صدور حكم المحكمة ونقطة البدء في إعمال آثار بطلان هذا الحكم بوسائل مختلفة، منها: تأخير نشر الحكم الصادر بعدم الدستورية، وفي بعض الأحيان تفضل المحكمة أن تقضي برفض الدعوى أو أن تضع قيودًا على الحجية المطلقة للحكم الصادر بعدم الدستورية.

 

         كما لجأت المحكمة الدستورية الإيطالية في بعض الأحيان إلى تنبيه المشرع إلى ما يشوب النص من عيوب وكيفية معالجتها، ومثالها: أن المحكمة نبهت المشرع ولفترة طويلة إلى ملاحظاتها على صيغة اليمين التي يؤديها الشهود دون أن يحرك المشرع ساكنا، فقضت بأن هذه الصيغة قسما بالله، لا تنطبق على غير المؤمنين.

 

         ومن الأمثلة المشهودة أن المحكمة قضت بعدم دستورية امتداد عقود إيجار المباني المستخدمة لأغراض السكنى، بعدما نبهت المشرع سنة 1984 إلى عدم اللجوء إلى مثل هذه الحيلة، وكذلك الحال بالنسبة للنصوص التي كانت تستبعد العلانية في القضايا الضريبية.

 

         وقد لاحظ الفقه، بحق، ما يشوب الأحكام الصادرة بهذا المعنى من تناقض بين ما يظهر من عدم دستورية النصوص المطعون عليها وبين منطوق قضائها، ومع ذلك لم يقلل من أهمية هذا النوع من الأحكام التي من شأنها أن تعالج المحكمة من تلقاء نفسها بعض المسائل الدستورية التي تلاحظها عند تسبيب الحكم برفض الدعوي، وذلك حتي يعالج المشرع مشكلات جسيمة تستحق الحسم[31].

         وفى ألمانيا: ميزت المحكمة الدستورية الاتحادية في ألمانيا بين[32] :

 

الأحكام بعدم دستورية القوانين بين نوعين من الأحكام:

  1. حكم يعلن بطلان النص التشريعي المخالف للدستور، وهذا الحكم له آثر كاشف يلحق النص منذ بدء العمل به.

ويترتب علي بطلان النص التشريعي استمرار وجود الأحكام القضائية الصادرة بناء عليه من حيث المبدأ، وما لم يكن قد طعن عليها قبل الحكم.

علي أنه إذا كان الحكم لم ينفذ بعدما أصبح تنفيذه غير مشروع، وإذا تعلق الأمر بقانون ضريبي قضي بعدم دستوريته، فلا يجوز استرداد الضريبة المدفوعة ما لم يكن الممول قد طعن من قبل على قرار ربط الضريبة، مما يجعل هذا القرار غير بات.

 

  1. حكم يعلن عدم دستورية النص التشريعي دون أن يعلن بطلانه، وقد استحدثت المحكمة الدستورية الاتحادية في ألمانيا هذا النوع من الأحكام دون أساس من الدستور أو التشريع، بل ذهب البعض إلى أن هذا النوع من الأحكام يخالف قانون المحكمة الذي أقام علاقة لازمة بين عدم دستورية النص وبطلانه، مما أدي بالمشرع سنة 1970 أن يجيز إصدار هذا النوع من الأحكام، دون أن يحدد أحوال صدورها أو آثارها.

ولكن المحكمة الدستورية الاتحادية حددت هذه الآثار، وهى الاستمرار في تطبيق النص غير الدستوري مؤقتا، مع التزام المشرع بالتخلص من أثر عدم الدستورية، عدا الحالة المنظورة أمام محكمة الموضوع والتى رفعت الدعوي الدستورية بمناسبتها، فإن المحكمة الدستورية قد تحدد للمشرع مهلة معينة لتفادى عيب الدستورية.

ويهدف هذا النوع الثاني من الأحكام إلى تفادي وجود فراغ قانوني محتمل إذا ما قضي بإعلان بطلان النص غير الدستوري. الأمر متروك للمحكمة فى تقدير مدي ملاءمة إصداره. ومع ذلك فقد ذهبت في بعض أحكامها إلى أن الحكم بعدم الدستورية ينتج ذات الأثر الذى يولده الحكم بإعلان البطلان.

وهكذا يتضح أن آثار هذا النوع الثاني من الأحكام ما زالت غير واضحة. وقد تعرضت المحكمة الدستورية الاتحادية للانتقاد بسبب هذا النوع من الأحكام حين استحدثته دون أساس قانوني فقامت بذلك مقام المشرع في فترة انتقالية إلى أن تدخل المشرع سنة 1970 فقنن قضاءها المذكور. وقد تطور الأمر في نطاق هذا النوع الثاني من الأحكام، فلم تقتصر المحكمة على النطق بعدم الدستورية، بل طالبت المشرع بأن يعمل وفقًا للدستور. وقد حدث أن نظرت المحكمة طعنًا بعدم دستورية قانون تقسيم الدوائر الانتخابية، ورأت المحكمة عدم احترام القانون لمبدأ عدم المساواة في التقسيم بالنظر إلى عدد سكان الدائرة، الأمر الذي يؤثر فى وزن الصوت الانتخابي عند نجاح المرشح، ومع ذلك قضت المحكمة الدستورية الاتحادية بعدم وجود مخالفة دستورية تؤدى إلي عدم إتمام الانتخابات، إلا أنها طالبت المشرع بأن يعتنق تقسيمًا سليمًا للدوائر الانتخابية.

وقد لوحظ أن المحكمة الدستورية الاتحادية الألمانية قد وضعت في اعتبارها عند إصدار هذا النوع الثاني من الأحكام النتائج السياسية المترتبة على قضائها، وما قد تتضمنه من آثار خطيرة تلحق بالدولة ومنها ما سمى بالفوضى القانونية أو بالفراغ القانوني، فهي قد صححت الانتخابات وفقًا لقانون غير دستوري للحيلولة دون هذه النتيجة.

وقد تغلبت المحكمة الدستورية الإيطالية على تردد الفقه الدستوري بشأن طبيعة الحكم الصادر بعدم الدستورية من حيث اعتباره كاشفًا أو منشئًا، فسرعات ما أكدت أن أحكامها بعدم الدستورية لها أثر كاشف تنسحب آثاره على الماضي، وليس أثرًا منشئًا يؤدي إلى مجرد إلغاء النص المعمول به، وأكدت المحكمة في أحكامها أن إعلان عدم الدستورية يصيب القاعدة القانونية منذ حذفها من النظام القانوني، ويجعلها عاجزة عن التأثير فى العلاقات القانونية منذ نشوئها، دون مساس بالمراكز القانونية الباتة وقالت في حكم آخر بأن الحكم بعدم دستورية القاعدة القانونية يجعل الأعمال والتصرفات المتوقفة على هذه القاعدة خالية من أي أساس قانوني كما جرى قضاؤها على أن للمحكمة أن تستبعد "الأثر الرجعي" للحكم بعدم الدستورية بعض القضايا إذا ترتب على الأثر الرجعي اضطراب في العلاقات القانونية.

وأكدت المحكمة الدستورية البرتغالية أن الحكم الصادر بعدم الدستورية له أثر كاشف، وينتج أثره منذ تاريخ ميلاد القاعدة شوبة بعدم الدستورية.

وقد نص الدستور البرتغالي صراحة على استثناء الحالات التى حازت حجية الأمر المقضي من نطاق الأثر الكاشف للحكم بعدم الدستورية. وطبقًا لهذا النص فإن الأحكام التى حازت هذه الحجية والتي طبقت القاعدة المحكوم بعدم دستوريتها لا يعاد النظر فيها بأي طريق فى ضوء الحكم بعدم الدستورية.

وقد ذهب الفقه البرتغالي إلى أن المقصود بحجية الأمر المقضي ينصرف إلى كل من الحجية القضائية، والحجية الإدارية، التي تتمتع بها القرارات الإدارية التي أصبحت غير خاضعة للطعن "بفوات ميعاد الطعن مثلا"[33].

 وقد أضاف الفقه إلى هذه الحالة التى نص عليها الدستور صراحة، المراكز القانونية المستقرة تحت تأثير التقادم، أو انقضاء الالتزام أو أدائه، إلا أن موقف المحكمة الدستورية البرتغالية بشأنها لم يتضح بعد، فقد لوحظ أنها قد اتخذت جانب الحذر في الشأن  رغم تقديرها بأن استثناء حجية الأمر المقضي لا يستوعب جميع المراكز القانونية المستقرة. ومن ناحية أخرى استقرت المحكمة الدستورية البرتغالية علي تقييد نطاق ما يسمى "بالأثر الرجعي" لأحكامها، الكاشفة لعيب عدم الدستورية، عندما يتطلب الأمن القومي، ذلك مراعاة لصالح العدالة أو المصلحة العامة ذات الأهمية القصوي، وفي هذه الحالة يتعين علي المحكمة تسبيب حكمها في هذا الشأن. وأنه في سبيل ذلك لها أن تؤجل إنتاج آثار الحكم بعدم الدستورية كلها أو بعضها إلى أجل معين.

 

الحكم بعدم الدستورية له أثر منشئ بإلغاء النص التشريعي المطعون عليه[34].    

        مؤدي هذا الاتجاه أن الحكم بعدم الدستورية يعنى إلغاء النص التشريعي اعتبارًا من اليوم التالي لنشر الحكم المطعون عليه، والتي تستخلص منه القاعدة القانونية غير المطابقة للدستور.

         ومن ثم، فإن النص لا يعمل به اعتبارًا من تاريخ الحكم بعدم الدستورية.

         وقد أخذت بهذا الاتجاه المحكمة الدستورية فى كل من: أسبانيا، وتركيا، وبولندا "قبل صدور دستور 1997، وبلغاريا 1992، والمجر 1989، ورومانيا 1992، وسلوفاكيا 1993، والتشيك 1993، وهو ما يعني أن الحكم المذكور له أثر منشئ بإلغاء النص المطعون عليه، وليس أثرًا كاشفًا لعيب لحق به من مولده.

 

وقد أخذ بهذا النظر الدستور النمساوي، إذ نص علي أن الحكم بعدم دستورية النص التشريعي المطعون فيه، سواء كان واردًا في تشريع أو لائحة، ينتج أثره إعتبارًا من يوم نشر الحكم المادتان (139، 140) من الدستور النمساوي، وهو ما يعنى أن القاعدة القانونية التى تضمنها النص التشريعي المحكوم بعدم دستوريته تظل حاكمة للوقائع التى حدثت فى الماضي اي قبل نشر الحكم بذلك. وقد شبه "إيسمان" ذلك بالحكم بإلغاء القاعدة القانونية الذى ينتج أثره منذ العمل بهذا الإلغاء، ويستثني من ذلك ثلاث حالات هي:

  1.  سريان الحكم بعدم الدستورية على الحالة المعروضة على محكمة الموضوع، والتى أثير بشأنها الدفع بعدم الدستورية الذى أحيل إلى المحكمة الدستورية العليا، وأصدرت فيه هذه المحكمة حكمها بعدم الدستورية بعد أن باشرت رقابتها المحددة على هذه الحالة. ووفقًا للأحكام الحديثة للمحكمة الدستورية الألمانية يسري أثر بطلان القاعدة القانونية كذلك على كل الحالات الأخرى التي كانت منظورة أمام المحكمة قبل قفل باب المرافعة في الحالة التي صدر فيها الحكم.
  2.  يجوز للمحكمة أن تحدد تاريخًا آخر لنفاذ حكمها غير الأثر المباشر بأن تشمل حكمها، وفي حدود سلطتها التقديرية بالأثر الرجعي، وفي هذه الحالة فإن النص المحكوم بعدم دستوريته لا ينتج أثره وتزول قوته القانونية عند مولده، وقد لوحظ أن المحكمة الدستورية الألمانية قد استخدمت هذه الرخصة التى تقررت لها منذ سنة 1976 في حالات نادرة، وأرجع البعض ذلك إلى عدم قدرة المحكمة على تقييم النتائج المترتبة على الأثر الرجعي في الحالات التى عرضت عليها.
  3.  يجوز للمحكمة الدستورية في حكمها الصادر بعدم دستورية النص المطعون عليه أن تحدد أجلاً يتراخي فيه أثر الحكم بعدم الدستورية حتي ينتج هذا الحكم أثره عدا الحالة المحددة التي صدر بشأنها الحكم بعدم الدستورية، وقبل حلول هذا الأجل يستمر النص المحكوم بعدم دستوريته في التطبيق، وبذلك فإن القاعدة القانونية المقضي بعدم دستوريتها يجب معاملتها وكأنها لا زالت جزءًا في النظام القانوني مطابقة للدستور لا مساس بها، وذلك حتى ينقضي الأجل الذي حددته المحكمة. وقد لوحظ أن المحكمة كثيرًا ما تستخدم  هذه الرخصة بناء على طلب الحكومة. وقد كانت العلة الغالبة التى تحكم ممارسة المحكمة لهذه الرخصة القول بأن بطلان القاعدة القانونية سوف يقود البلاد إلى وضع مؤلم من الناحية السياسية. وقد تصل هذه المهلة إلى سنة تتمكن فيها الدولة من تنقية القانون من العيب الذى لحقه. كما لوحظ أيضًا أن المحكمة الدستورية النمساوية قد بدأت فى اتخاذ موقف محافظ أكثر من ذي  قبل عند ممارسة رخصتها في تحديد أجل لترتيب اثر الحكم بعدم الدستورية، وأنها تتطلب من الحكومة أن تثبت أن الاختفاء الفوري للقاعدة المخالفة للدستور لا يتفق مع الضرورات العملية، وأن الأجل المطلوب يستهدف إعطاء الفرصة لتحقيق الهدف المطلوب من الحكم بعدم دستورية هذه القاعدة.

وفى هذا الخصوص، نص الدستور البولندي الصادر سنة 1997 في المادة (190) على أن حكم المحكمة الدستورية يعمل به من يوم نشره، ويجوز للمحكمة أن تحدد تاريخًا آخر لانقضاء القوة الإلزامية للتشريع وغيره من الأعمال التى تتضمن قواعد قانونية، ولا يجوز أن تزيد هذه المدة عن ثمانية عشر شهرًا بالنسبة للتشريع، واثني عشر شهرًا بالنسبة إلى غير ذلك من الأعمال التى تتضمن قواعد قانونية. أما في الأحوال التى يترتب فيها على الحكم أعباء مالية لم ينص عليها القانون المالي، أي قانون الموازنة، تحدد المحكمة تاريخ انقضاء القوة الإلزامية بعد أخذ رأي مجلس الوزراء.

وجاء قانون المحكمة الدستورية البولندية الصادر فى أول أغسطس سنة 1997 بناء علي هذا الدستور، فنص في المادة: (71) على أن المحكمة الدستورية تحدد عند الحكم بعدم الدستورية التاريخ الذي سوف يتوقف فيه العمل بالقانون غير الدستوري[35].

  • لقد أوصت محكمة العدل الأوربية دول الاتحاد مؤخرًا، بتكريس مبدأ الأمن القانوني فى مجال التشريع الداخلي مقررة في غير مرة أن مبدأ الأمن القانوني مطلب أساسي لنظام الجماعة الأوربية. كما نادي العديد من فقهاء القانون الأوربيين إلى تكريس هذا المبدأ ليصير مبدأ عالميًا يتقيد به المشرعون والقضاة على حد سواء، ويرون أن مبدأ الأمن القانوني يجب أن يصير مبدأ دستوريًا يحكم سلطة القاضي الدستوري فى استخلاص معني الدستور وبلورة معايير الدستورية[36] .  
  • فالوضوح والتحديد والقابلية للتوقع المشروع، وما يؤدي إليه ذلك من طمأنة المخاطبين بالتشريعات . ذوي الحق الدستوري في اللجوء إلى القاضي الدستوري – على أوضاعهم ومراكزهم المستقرة أو التى يرجي لها الاستقرار هو أساس فكرة الأمن القانوني.

 

 

المبحث الثالث

تطبيق فكرة الأثر المستقبلي للحكم فى مصر

 

بعد أن عرضنا الوضع فى النظم الدستورية المقارنة، فإن الأمر فى مصر مختلف، فقد انقسم الفقه إلى قسمين:

فقد ذهب جانب من الفقه [37] إلى أن الأحكام التى لها أثر مستقبلي أي التي يجوز وقف تنفيذها لفترة معينة هي الأحكام الصادرة بعدم الدستورية في الدعاوي المقامة بطريق الدعوي أو يقرر القانون بجواز إرجاء تنفيذها لفترة معينة، أو تقضي الضرورة إرجاء تنفيذها بقرار يصدر من السلطة المختصة ومثالها الأحكام الصادرة بعدم الدستورية في منازعات الاختصاص بين الدولة والأقاليم، أو بين الأقاليم بعضها البعض.

أما الدعاوي التي تثار فيها المسألة الدستورية أمام محكمة الموضوع عن طريق الدفع بعدم الدستورية، أو الإحالة من قاضي النزاع ذاته، فإن الأحكام الصادرة بعدم الدستورية تتأبي على فكرة الأثر المستقبلي للحكم، ولا يكون لهذه الأحكام إلا أثرًا رجعيًا.

ولما كان النظام المصري فى الرقابة على الدستورية لا يأخذ بنظام الدعوي الأصلية فلا يوجد ما يمكن أن يسمي بالأثر المستقبلي للحكم الدستوري.

وإذا كان تعديل نص المادة: (49/3) من قانون المحكمة الدستورية العليا بموجب القرار بقانون 168 لسنة 1998 قد أجاز للمحكمة أن تحدد للحكم الصادر بعدم الدستورية "تاريخًا آخر".

واحتمالات تفسير هذا النص تؤدي إلى أن هذا التاريخ إما أن يكون أثرًا فوريًا أو أثر مستقبلي.

ويذهب هذا الرأي إلى أن جواز تحديد تاريخ مستقبلي للحكم الدستوري هو أمر لا يمكن قبوله لأكثر من داعي[38].

إن كان من الممكن قبول قاعدة الأثر المباشر بحجة العوار الدستوري ينشأ من الطعن على النص لا من صدوره، فأي سند هذا الذي يجيز، وقد تأكدت المخالفة الدستورية، تأجيل إعمال الحكم كتاريخ مستقبلي.

وإذا كانت لتلك السلطة شبيه في قوانين دول أخري، فإنها تستند إلى نصوص دستورية صريحة، أو إلى فلسفة قانونية لا تتواءم مع نظامنا.

إن السماح بإنتاج الحكم آثاره في تاريخ مستقبلي يعني إيقاف النص الدستوري الذى خرق القانون أحكامه، فهل تملك سلطة مؤسسة مثل الاختصاص دون نص دستوري ما، مع الدلالة على ذلك.

فالمحكمة لا تملك إرجاء تنفيذ حكمها بعد نشره بالجريدة الرسمية بغير نص صريح فى قانونها، وأن كل ما توخاه القرار 168 لسنة 1998 هو الحد من إطلاق قاعدة الأثر الرجعي ولا يتحقق ذلك إذا كان نفاذ الحكم موقوفًا أو متراخيًا[39]. بينما ذهب جانب آخر من الفقه: إلى أن ما ورد بالتعديل ومذكرته الإيضاحية يؤكد حق المحكمة الدستورية العليا فى أن تحدد اثرًا مستقبليًا حكمها في بعض الحالات التي تتطلب فيها تحقيق الموازنة بين متطلبات الشرعية الدستورية بين اعتبارات استقرار المراكز القانونية فى المجتمع، والحفاظ على أمنه اجتماعيًا واقتصاديًا، رخصة قررها صراحة القرار بقانون 168 لسنة 1998، كما تدل على ذلك مذكرته الإيضاحية، إذ أن الدستور قد فوض المشرع العادي فى تنظيم ما يترتب علي الحكم بعدم دستورية نص تشريعي من آثار.

فقد نصت المادة (195) من الدستور الحالي على أن "تنشر الجريدة الرسمية الأحكام والقرارات الصادرة من المحكمة الدستورية العليا، وهي ملزمة للكافة وجميع سلطات الدولة، وتكون لها حجية مطلقة بالنسبة لهم، وينظم القانون ما يترتب على الحكم بعدم دستورية من آثار".

 

موقف المحكمة الدستورية العليا من رخصة تقرير الأثر المستقبلي لحكمها:

انتصرت المحكمة الدستورية العليا لهذا الرأي الأخير الذي يخولها الحق في أن تقرر لحكمها أثرًا مستقبليًا مراعاة لمصالح اجتماعية كبري، والحفاظ على الدولة واستقرارها والسلام الاجتماعي، الذي يجب أن يسود، وإعطاء الفرصة للسلطات المختصة لكي تتفادي ما ينجم عن الحكم من آثار، وأصدرت في ذلك حكمًا من أهم أحكامها نورده كاملاً لأهميته ولكونه السابقة الأولى لمثل هذه الأحكام.

حكم الإيجارات الخاصة بالأشخاص المعنوية

وحيث إن مناعى المدعين على النص المطعون عليه – فى النطاق السالف تحديده – يتحدد فى مخالفته لنصوص المواد (7، 8، 32، 34، 40 ، 41) . وحيث إن القضاء باعتبار الخصومة منتهية في الدعوى المعروضة، لا يحول دون استفادة المدعي في الدعوى الموضوعية، من الحكم الصادر في الدعوى رقم 92 لسنة 40 قضائية "دستورية" السالف البيان، ذلك أن المقصود بالمدعي الذي يستفيد من الحكم الصادر بعدم دستورية نص تشريعي، حُدّدَ تاريخٌ لنفاذه، وفقًا لنص المادة (49) من قانون هــــــذه المحكمة – وعلى ما جرى به قضاؤها – كل خصم اتصلت دعواه بإحدى جهات القضاء، قبل صدور حكم هذه المحكمة بعدم دستورية نص تشريعي، متى كان النص المقضي بعدم دستوريته واجب التطبيق في الدعوى الموضوعية .من دستور سنة 1971، وذلك بما قرره من امتداد قانونى لمدة عقد إيجار الأماكن لأحد الأشخاص الاعتبارية، لاستعمالها فى غير غرض السكنى، بعد انتهاء المدة المتفق عليها فى عقد الإيجار، حتى صارت يدهم عليها مؤبدة، ونزعها من أيدى ملاكها، بما يخل بالتضامن الاجتماعى، وبمبدأ تكافؤ الفرص، ويخل بالحماية المقررة للملكية الخاصة، وينال من حرية التعاقد باعتبارها فرعًا من الحرية الشخصية، فضلاً عن إخلاله بمبدأ المساواة بين المؤجرين لأشخاص اعتبارية، والمؤجرين لأشخاص طبيعيين، الذين تنتهى عقود إيجارهم بوفاة صاحب حق البقاء فى العين، وفقًا للضوابط الواردة فى الفقرة الثانية مــــــــن المادة (29) من القانــــــون رقم 49 لسنة 1977 بشأن إيجار الأماكن بعد استبدالها بالمادة الأولى من القانون رقم 6 لسنة 1997 المشار إليه.

وحيث إن الرقابة على مدى مطابقة النصوص التشريعية - أيًا كان تاريخ العمل بها -    للقواعد الموضوعية التى تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، لكون هذه الرقابة إنما تستهدف أصلاً – وعلى ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة – صون الدستور القائم وحمايته من الخروج على أحكامه، وأن نصوص هذا الدستور تمثل دائمًا القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التى يتعين التزامها ومراعاتها وإهدار ما يخالفها من التشريعات، باعتبارها أسمى القواعد الآمرة. متى كان ذلك، وكانت المناعى التى وجهها المدعين للنص المطعون فيه تندرج تحت المطاعن الموضوعية التى تقوم فى مبناها على مخالفة نص تشريعى لقاعدة فى الدستور من حيث محتواها الموضوعى، ومن ثم، فإن هذه المحكمة تباشر رقابتها على دستورية النص المطعون فيه، الذى مازال قائمًا ومعمولاً بأحكامه – محددًا نطاقًا على النحو المتقدم – من خلال أحكام الدستور القائم الصادر سنة 2014، باعتباره الوثيقة الدستورية السارية.

وحيث إن الدستور القائم لم يأت بما يخالف ما أورده المدعون فى خصوص المبادئ الدستورية الحاكمة للنص المطعون عليه فى دستور سنة 1971: فالثابت أن المادتين (7، 8) بشأن التضامن الاجتماعى وتكافــؤ الفرص، والمادتين (32، 34) بشأن صون الملكية الخاصة وتنظيم وظيفتها الاجتماعية، والمادة (40) بشأن المساواة بين المواطنين، والمادة (41) بشأن صون الحرية الشخصية باعتبارها حقًا طبيعيًّا، التى وردت فى دستور سنة 1971، تطابق فى مجملها الأحكام الواردة فى المواد (4، 8، 9، 35، 53، 54) من الدستور القائم.

وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن حرية التعاقد قاعدة أساسية اقتضتها المادة (54) من الدستور؛ صونًا للحرية الشخصية، التى لا يقتصر ضمانها على تأمينها ضد صور العدوان على البدن، بل تمتد حمايتها إلى أشكال متعددة من إرادة الاختيــــــــــــــــــــــــار وسلطة التقرير التى ينبغى أن يملكها كل شخص، فلا يكون بها كائن يُحمل على ما لا يرضاه، وحرية التعاقد بهذه المثابة، فوق كونها من الخصائص الجوهرية للحرية الشخصية، فإنها كذلك وثيقة الصلة بالحق فى الملكية، وذلك بالنظر إلى الحقوق التى ترتبها العقود – المبنية على الإرادة الحرة – فيما بين أطرافها. بيد أن هذه الحريـــــة – التى لا يكفلهـــــــــا انسيابهـــــا دون عائـــــــق، ولا جرفها لكل قيد عليها، ولا علوها على مصالح ترجحها، وإنما يدنيها من أهدافها قدر من التوازن بين جموحها وتنظيمها – لا تعطلها تلك القيود التى تفرضها السلطة التشريعية عليها بما يحول دون انفلاتها من كوابحها، ويندرج تحتها أن يكون تنظيمها لأنــــــــــــواع من العقود محددًا بقواعد آمرة تحيط ببعض جوانبها، غير أن هذه القيــــــــــــــــود لا يسعهــــــــــــــا أن تدهم الدائرة التى تباشـــــــر فيها الإرادة سلطانها، ولا أن تخلـــط بين المنفعة الشخصية التى يجنيها المستأجر من عقد الإيجار – والتى انصرفت إليها إرادة المالك عند التأجير – وبين حق الانتفاع كأحد الحقوق العينية المتفرعة عن الملكية.

وحيث إن النص المطعــــــون فيـــه – محــــــددًا نطاقًا على النحــــــو المتقــــــدم – إذ أجاز للشخص الاعتبارى المستأجر لعين لاستعمالها فى غير غرض السكنى، البقاء فيهـــــــــــا بعد انتهــــــــــــــاء المدة المتفق عليهـــــــــــــــــــــا فى العقد، فإنه على هذا النحو – وباعتباره واقعًا فى إطار القيود الاستثنائية التى نظم بها المشرع العلائق الإيجارية – يكون قد أسقط حق المؤجر – مالك العين فى الأعم من الأحوال – فى استرداد العين المؤجرة بعد انتهاء مدة إجارتها، حال أن حق المستأجر لازال حقًا شخصيًا مقصورًا على استعمال عين بذاتها فى الغرض الذى أُجريت من أجله خلال المدة المتفق عليها فى العقد، فلا يتم مد تلك المدة بغير موافقة المؤجر، وبالمخالفة لشرط اتصل بإجارة أبرماها معًا، صريحًا كان هذا الشرط أم ضمنيًا. ومن ثم، فإن ما تضمنه ذلك النص من امتداد قانونى لمدة عقد إيجار الأماكن المؤجرة لأشخاص اعتبارية، لاستعمالها فى غير غرض السكنى، يكون متضمنًا عدوانًا على الحدود المنطقية التى تعمل الإرادة الحــــــــرة فى نطاقها، والتى لا تستقيم الحريــــة الشخصية – فى صحيح بنيانها – بفواتها، فلا تكون الإجارة إلا إملاء يناقض أساسها، وذلك بالمخالفة للمادة (54) من الدستور.

وحيث إنه من المقرر - أيضًا - فى قضاء هذه المحكمة أن صون الدستور للملكية الخاصة، مؤداه أن المشرع لا يجوز له أن يجردهـــــــا من لوازمها، ولا أن يفصل عنها بعض أجزائها، ولا أن ينتقص من أصلها أو يغير من طبيعتها دون ما ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية. وكان ضمان وظيفتها هذه يفترض ألا ترهق القيود التى يفرضها المشرع عليها جوهر مقوماتها، ولا أن يكون من شأنها حرمان أصحابها من تقرير صـــــــور الانتفاع بها، ذلك أن صـــــون الملكية وإعاقتهـــا لا يجتمعان، وأن هدمها أو تقويض أُسُسها من خلال قيود تنال منها، ينحل عصفًا بها منافيًا للحق فيها.

وحيث إن مكنة استغلال الأعيان ممن يملكونها، من خلال عقود إيجارها، إنما تعنى حقهم فى تحديد مدة العقد، ليكون العقد وحده – وبحسبانه تصرفًا قانونيًا وعملاً إراديًا – بديلاً عن التدخل التشريعى لتحديد هذه المدة، باعتبار أن تأقيت هذا العقد يُعد جزءًا لا يتجزء من حق الاستغلال الذى يباشرونه أصلاً عليها. إذ كان ذلك، وكان النص المطعون فيه، بما قرره من امتداد قانونى لمدة عقد إيجار الأماكن للأشخاص الاعتبارية لاستعمالها فى غير غرض السكنى، قد سلب حق المؤجر فى طلب إخلائها بعد انتهاء مدة الإيجار المتفق عليها فى العقد، لتصير يد المستأجر على العين مؤبدة، باقية مدة بقاء الشخص الاعتبارى – عامًا كان أم خاصًا – ولو كان المؤجر فى أمس الحاجة لها، فإن هذا النص، فضلاً عن إخلاله بالتوازن الواجب بين أطراف العلاقة الإيجارية، مغلبًا مصالح أحد أطرافها – المستأجر – على الطرف الآخر– ولغير ضرورة تقتضيها الوظيفة الاجتماعية للملكية الخاصة – يكون قد انتقص من إحدى عناصر تلك الملكية، بما فرضه من قيود تنال جوهر مقوماتها، من شأنها حرمان أصحابها من تقرير صور الانتفاع بها واستغلالها، فضلاً عما يترتب على ذلك من تصادم المصالح، والمساس بالتوافق والسلام الاجتماعى بين أفراد المجتمع، وهو ما يجاوز نطاق السلطة التقديرية المقررة للمشرع فى مجال تنظيم الحقوق، لينحل التنظيم الذى أتى به تقييدًا لها، بما ينال من أصل الحق فى الملكية وجوهره، ويهدد التضامن الاجتماعى باعتباره أحد مقومات المجتمع، وذلك كله بالمخالفة لأحكام المواد ( 8، 33، 35، 92) من الدستور.

وحيث إن الدستور الحالى قد اعتمد بمقتضى نص المادة (4)  منه مبدأ المساواة، باعتباره إلى جانب مبدأى العدل وتكافؤ الفرص أساسًا لبناء المجتمع وصيانة وحدته الوطنية، وتأكيدًا لذلك حرص الدستور فى المادة (53) منه على كفالة تحقيق المساواة لجميع المواطنين أمام القانون، فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، دون تمييز بينهم لأى سبب، وكان مبدأ المساواة أمـــــام القانــــــون - وعلى ما استقر عليه قضاء هذه المحكمة - لا يعنى معاملة المواطنين جميعًا وفق قواعد موحدة، ذلك أن التنظيم التشريعى قد ينطوى على تقسيم أو تصنيف أو تمييز، سواء من خلال الأعباء التى يلقيها على البعض أم من خلال المزايا التى يمنحها لفئة دون غيرها، إلا أن مناط دستورية هذا التنظيم ألا تنفصل النصوص التى ينظم بها المشرع موضوعًا معينًا عن أهدافها؛ ليكون اتصال الأغراض التى توخى تحقيقها بالوسائل التى لجأ إليها، منطقيًا، وليس واهيًا أو واهنًا أو منتحلاً، بما يخل بالأسس التى يقوم عليها التمييز المبرر دستوريًّا، كما حرص الدستور فى المادة (9) منه على كفالة تكافؤ الفرص بما يستوجبه ذلك من ترتيب المتزاحمين على الفرص التى كفلها الدستور للمواطنين على ضوء قواعد يمليها التبصر والاعتدال، وهو ما يعنى أن موضوعية شروط النفاذ إليها مناطها تلك العلاقة المنطقية التى تربطها بأهدافها، فلا تنفصل عنها، ولا يجوز بالتالى حجبها عمن يستحقها، ولا إنكارها لاعتبار لا يتعلق بطبيعتها ومتطلباتها.

وحيث إنه من المقرر – كذلك – فى قضاء هذه المحكمة أن العبرة فى تقرير دستورية التشريع هى بتوافق أو تصادم نصوصه وأحكام الدستور ومقتضياتها، فإذا ما قرر المشرع حقًا معينًا، وجب عليه – وفقًا لمبدأى المساواة وصون الملكية الخاصة، وقد أنزلهما الدستور مكانًا عاليًا – أن يضع القواعد التى تكفل المعاملة المتكافئة لأصحاب المراكز القانونية التى تتكافأ فى العناصر المكونة لها، مع عدم المساس بحماية الملكية الخاصة، وسبيله إلى ذلك الأداة التشريعية الملائمة، وإنفاذها من التاريخ المناسب، فلا يسوغ - من زاوية دستورية - أن يعطى هذا الحق لفئة دون أخرى من ذوى المراكز المتحدة فى أركانها وعناصرها، أو أن يعتدى على الملكية الخاصة، فالدستور يسمو ولا يُسمى عليه، فإذا كان مقتضاه فتح باب إلى حق، امتنع على المشرع أن يمنحه لبعض مستحقيه ويقبضه عن البعض الآخر، إذ كان ذلك، وكان جميع مؤجرى الأماكن لاستعمالها فى غير غرض السكنى، فى علاقاتهم بمستأجريها، فى خصوص الامتداد القانونى لمدة عقد الإيجار، تتكافأ مراكزهم القانونية، مما يستوجـب – من زاوية دستورية – وحدة القاعــــدة القانونية التى ينبغى تطبيقها فى حقهم. إلا أن المشرع – بموجب النص المطعون فيه – قد خالف ذلك، إذ اختص فئة المؤجرين لهذه الأماكن لأشخاص اعتبارية، بمعاملة أدنى من قرنائهم المؤجرين لها لأشخاص طبيعيين، بأن حرم الفئة الأولى، من استرداد العين المؤجرة ما بقى الشخص الاعتبارى قائمًا عليها، سواء كان المستأجر شخصًا اعتباريًّا عامًا أم خاصًا. حال أن الفئة الثانية من المؤجرين سترد إليهم العين المؤجرة بعد وفاة المستأجر الأصلى، أو انتهاء امتداد العقــــــــد، لمرة واحدة للفئات التى حددها المشرع من ورثته الذين يستعملون العين المؤجرة فى النشاط ذاته الذى كان يمارسه طبقًا للعقد، على نحو ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة (29) من القانون رقم 49 لسنة 1977 المشار إليه بعد استبدالها بالمادة الأولى من القانون رقم 6 لسنة 1997. وهذا التمييز فى المعاملة بين طائفتى المؤجرين لأماكن لاستعمالها فى غير غرض السكنى، بحسب ما إذا كان المستأجر شخصًا اعتباريًّا أو شخصًا طبيعيًّا، رغم تكافؤ مراكزهم القانونية، باعتبارهـــــــــــــــــم جميعًا مؤجرين لأماكن مخصصـة لغير أغراض السكنى، مما كان يوجب أن تنتظمهــــــــــــم جميعًا قواعد قانونية واحدة، لا تقيـم فى مجال تطبيقها تمييزًا بينهم من أى نوع، ومن ثم، فإن إقامة النص المطعون فيه هذا التمييز التحكمى بين هاتين الطائفتين من المؤجرين فى هذا الخصوص، وبالنظر لكونه يعد الوسيلة التى اختارها المشرع لتنظيم العلاقة بين مؤجرى ومستأجرى هذه الأماكن، والتى لا ترتبط ارتباطًا منطقيًّا وعقليًّا بالأهداف التى رصدها لهذا التنظيم، فإنه يكون مصادمًا لمبدأى المساواة وتكافؤ الفرص، ويقع - من ثم - فى حومة مخالفة نصوص المواد (4، 9، 53) من الدستور.

وحيث إنه لما تقدم، فإن النص المطعون عليه – فى النطـــــاق السالف تحديده – يكون مخالفًا للمواد (4، 8، 9، 33، 35، 53، 54، 92) من الدستور.

وحيث إنه عن طلب الحكم بسقوط نص المادتين الأولى والثانية من القانون رقم 6 لسنة 1997 المشار إليه، لارتباطهما بنص المادة (18) من القانون رقم 136 لسنة 1981، فيما لم تتضمناه من النص على تحديد أو تقييد الامتداد القانونى لمدة عقد الإيجار الصادر للمستأجر إذا كان شخصًا اعتباريًا، فمن المقرر فى قضاء هذه المحكمة أن طلب السقوط لا يعتبر طلبًا جديدًا منبت الصلة بما دُفع به أمام محكمة الموضوع، وإنما هو من قبيل التقديرات القانونية التى تملكها المحكمة الدستورية العليا فيما لو قضت بعدم دستورية نص معين، ورتبت السقوط للمواد الأخرى المرتبطة به ارتباطًا لا يقبل التجزئة، وهو أمر تقضى به المحكمة من تلقاء نفسها حتى ولو لم يطلبه الخصوم. إذ كان ذلك، وكان النص المقضى بعدم دستوريته فى هذه الدعوى – فى النطاق السالف تحديده، وبقدر انعكاسه على النزاع المردد أمام محكمة الموضوع – ينصرف إلى ما تضمنه ذلك النص من إطلاق عبارته لتشمل امتدادًا قانونيًّا لمدد عقود إيجار الأماكن المؤجرة لأشخاص اعتبارية لاستعمالها فى غير غرض السكنى، حال أن نص المادتين الأولى والثانية من القانون رقم 6 لسنة 1997 المشار إليه تتناولان مسألة الامتداد القانونى لمدة عقد إيجار تلك الأماكن، المؤجرة لأشخاص طبيعيين، لفريق من ورثة المستأجر الأصلى، وفقًا للضوابط والشروط الواردة فى ذلك القانون، فإن مؤدى ذلك، عدم وجود محل لإعمال أحكام هذين النصين على وقائع النزاع الموضوعى، لعدم ارتباط أحكامهما بالنص المقضى بعدم دستوريته فى الدعوى المعروضة، ومن ثم لا يكون هناك محل للقضاء بسقوطهما تبعًا لهذا القضاء.

      وحيث إن هذه المحكمة تقديرًا منها لاتصال النص المطعون فيه بنشاط الأشخاص الاعتبارية، وتأثيره على أداء هذه الأشخاص لدورها فى خدمة المجتمع، والاقتصاد الوطنى، فإن المحكمة تعمل الرخصة المخولة لها بنص الفقــــــــرة الثالثة مـــن المـــــادة (49) من قانونها، وتحدد لإعمال أثر هـــذا الحكم اليوم التالــــــى لانتهاء دور الانعقاد التشريعى العادى السنوى لمجلس النواب، التالى لتاريخ نشر هذا الحكم فى الجريدة الرسمية طبقًا لنص المادة (195) من الدستور، والمادة (49) من قانون هذه المحكمة الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979، وهو الدور الذى سيعقد خلال عام (2018/2019) طبقًا لنص المادة (115) من الدستور، وذلك دون إخلال باستفادة المدعى – فى الدعوى المعروضة – من هذا الحكم.

 

فلهذه الأسباب حكمت المحكمة :

أولاً : بعدم دستورية صدر الفقرة الأولى من المادة  (18) من القانون رقم 136 لسنة 1981 فى شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، فيما تضمنه من إطلاق عبارة " لا يجوز للمؤجـر أن يطلب إخلاء المكـان، ولو انتهت المدة المتفق عليها فى العقد،... "، لتشمل عقود إيجار الأماكن المؤجرة للأشخاص الاعتبارية لاستعمالها فى غير غرض السكنى. وألزمت الحكومة المصروفات، ومبلغ مائتى جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

ثانيًا : بتحديد اليوم التالي لانتهاء دور الانعقاد التشريعي العادي السنوي لمجلس النواب اللاحق لنشر هذا الحكم تاريخًا لإعمال أثره.

 

الهوامش

 

[1] - يراجع بالتفصيل المستشار الدكتور عبدالعزيز سالمان الآثار القانونية لأحكام المحكمة الدستورية العليا والمشكلات العملية التى تثيرها – الطبعة الثانية سنة 2000 نادى القضاة ص 301 وما بعدها.

[2] - يراجع د. محمد مجدى مرجان: مقال عن المحكمة الدستورية والمزايدات الفاشلة، منشور بالأهرام، 5/8/1998.

[3] - د. نبيل لوقا بباوى، "الأثر الرجعى للأحكام الدستورية باطل". مقال منشور بالأهرام عدد 5/8/1998".

[4] - وهو قول يجافى الحقيقة إذ لم يحدث تعديلاً فى النصوص المنظمة للمحكمة الدستورية العليا فى هذا التاريخ.

[5] -  د. نبيل لوقا بباوى  "الأثر الرجعى للأحكام الدستورية باطل". مقال منشور بالأهرام عدد 5/8/1998".

[6] - يراجع فى ذات المعنى: د. محمد محمد بدران فى مقال بعنوان : "القرار خطوة على الطريق الصحيح". منشور بالأهرام فى 27/7/1998.

[7] - يراجع مؤلفهما من مبادئ القانون الروماني، 1953، دار الكتاب العربي، ص 395.

[8] - يراجع: د. محمد حامد فهمى: المرافعات المدنية والتجارة، 1937، مطبعة النصر، ص 618 وما بعدها.

[9] - د. محمد حامد فهمى، مرجع سابق، ص 619.

[10] - د. محمد حامد فهمى، مرجع  سابق، ص 620.

[11] - يراجع الدكتور عبدالباسط جميعي، في بحث بعنوان: سلطة القاضي الولائية، منشور بمجلة العلوم القانونية والاقتصادية، السنة الحادية عشرة، العدد الثاني، 1969، ص 571 وما بعدها.

[12] - يراجع: الدكتور عبدالباسط جميعي، بحث سابق، ص 627.

[13] - يراجع د. أحمد أبو الوفا: نظرية الأحكام في قانون المرافعات، 1985، الطبعة الخامسة، ص 712.

[14] - يراجع المستشار محمد وجدى عبدالصمد: الاعتذار بالجهل بالقانون، طبعة نادى القضاة.

[15] - يراجع: د. عبدالرازق السنهوري، الوسيط، الجزء التاسع، المجلد الأول، طبعة نادى القضاة، ص 927 وما بعدها.

[16] - يراجع د. عاطف البنا: في مقال بعنوان "المشروعية الدستورية وأساس سلطة الحكم"، منشور بالوفد بتاريخ 16/7/1998.

[17] - يراجع فى ذلك: مؤلفنا عن رقابة دستورية القوانين سنة 1995 دار الفكر العربي.

- المستشار أحمد ممدوح عطيه، "دارسه مقارنة تحليلية حول قانون المحكمة الدستورية العليا" منشور بالجزء الأول من مجموعة أحكام المحكمة الدستورية العليا، الصفحة رقم :130.

[18] - يراجع ذلك: حكم المحكمة الدستورية العليا فى القضية رقم 22 لسنة 18 قضائية دستورية، جلسة 30/11/1996.

[19] - الحكم الصادر فى الدعوى رقم 5 لسنة 38 قضائية "منازعة تنفيذ" جلسة 14/1/2017.

[20] - يراجع في ذلك: المستشار محمد زهران، "رقابة دستورية القوانين في إيطاليا"، مجلة إدارة قضايا الحكومة س 14 ع 1 سنة 1970، الصفحة رقم:141.

-  الدكتور رمزى الشاعر "النظرية العامة للقانون الدستوري" 1983 الصفحة رقم:615.

[21] - الدكتور طعيمه الجرف، "القضاء الدستوري" 1994، الصفحة رقم: 273.

[22] - يراجع فى كثير من التفصيلات: مؤلفنا عن الآثار القانونية لأحكام المحكمة الدستورية العليا سالف الإشارة إليه.

 

[24] - الحكم فى القضية رقم 33 لسنة 16 قضائية دستورية جلسة 2/2/1996، المجموعة، الجزء السابع ص 393.

[25] - ومن ذلك حكمها الصادر بجلسة 2/3/2019 فى الدعوى رقم 13 لسنة 40 قضائية منازعة تنفيذ.

[26]- الدكتور أحمد فتحى سرور، مرجع سابق، ص 332.

[27] - يراجع الحكم في الدعوى رقم 107 لسنة 38 قضائية "دستورية" جلسة 14/1/2023.

[28] - يراجع فى ذلك: الدكتور حاتم على لبيب جبر، "الصواب والخطأ فى مضمون القرار" مقال منشور بجريدة الأهرام القاهرية بتاريخ 27/7/1998.

[29] - وإلى مثل هذا الرأى انتهى الأستاذ الدكتور احمد فتحي سرور، "الحماية الدستورية للحقوق والحريات، 1999، نادى القضاة ص 332.

[30] - لمزيد من التفصيلات حول فكرة الأمن القانوني، يراجع:

- الدكتور أحمد فتحى سرور، "الحماية الدستورية للحقوق والحريات" نادى القضاة الصفحة رقم 321، مبدأ الأمن القانوني كأساس لعمل القاضي الدستوري، للدكتور حسين أحمد مقداد – دار النهضة العربية سنة 2019.

[31] - الدكتور أحمد فتحى سرور، مرجع سابق، الصفحة رقم 325 وما بعدها.

[32] - فى التفاصيل يراجع:

 - الدكتور أحمد فتحى سرور، "الحماية الدستورية للحقوق والحريات" مرجع سابق، ص 308 وما بعدها.

[33]- الدكتور أحمد فتحى سرور،  "الحماية الدستورية للحقوق والحريات" مرجع سابق، ص 311.

[34] - الدكتور أحمد فتحي سرور،  المرجع السابق، ص 312.

[35] - الدكتور أحمد فتحى سرور،  المرجع السابق، ص 314 وما بعدها.

[36]- د. حسين مقداد المرجع السابق ص 2 وما بعدها.

[37] - يراجع في ذلك:

- الدكتور فتحي فكري، "تعديل المادة: (49/3) من قانون المحكمة الدستورية العليا في حاجة إلى تعديل، بحث منشور بمجلة القانون والاقتصاد، العدد الواحد والسبعون، السنة 2001 ، ص 59 وما بعدها.

- الدكتور عبدالله ناصف، حجية وآثار أحكام المحكمة الدستورية العليا قبل التعديل وبعده، ص 61 وما بعدها، دار النهضة العربية 1998.

- الدكتور محمود ذكي، الحكم الصادر في الدعوي الدستورية، وآثاره وحجيته، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق جامعة القاهرة 2003 ص 99 وما بعدها.

[38] -  الدكتور فتحي فكرى، المرجع السابق الإشارة إليه، ص 96؟

[39] -  الدكتور محمود ذكى "الحكم الصادر فى الدعوى الدستورية، وآثاره وحجيته، مرجع سابق ص 600.